شاكر الأنباريفي التجربة الأوربية تعتبر الصحافة سلطة بحق. فهي تفضح، وتحاكم، وتدين، وتثبت جرائم. وكل ذلك عبر العقل والمنطق والمحاججة المستندة الى  وثيقة أو تصريح لهذا السياسي أو ذاك. وفضيلة الصحافة الغربية التي تتمتع بحرية واسعة، هي أنها تقف بالمرصاد لكل تصريح لمسؤول أو قائد حزبي أو برلماني، حيث انها تستشف وتقرأ ما وراء الكلام،
 وتؤوّل، كي توصل الى قارئها الحقيقة كاملة. ومن هنا صار للصحافة هذا الموقع الرفيع في بناء مجتمعات، وفي تصحيح أخطاء، وتغليب سياسات على بعضها. هذا الدور الرقابي الخطر على تصريحات المسؤولين يجعلهم يقتصدون جدا في كلامهم، ويكونون دقيقين في التعابير والمصطلحات. اذ يمكن لكلمة ليست في محلها أن تستغل من قبل الصحافة وتطيح بموقع ذلك المسؤول وتقضي على مستقبله السياسي أو الحزبي. وقد توصله الى المحكمة. ولو قارنا هذا الواقع بما موجود عندنا لرأينا صورة تختلف للصحافة. وتختلف لكلام المسؤول سواء كان حكوميا أو حزبيا أو برلمانيا. المسؤول عندنا يتكلم بشهية فائقة. يدلي بتصريحات قد لا يعنيها. يزايد على مسؤول آخر في الكلام، ويغالط أحيانا لسبب في نفسه. وتتلقف وسائل الاعلام تلك التصريحات وتتناقلها على ما فيها من تهويل ومغالطات وتحريض يأتي أحيانا مناقضا للقانون، او الدستور. سمعنا عن نواب في البرلمان يصرحون أمام عدسات التلفزيون بمواقف تصب في خانة العنف والارهاب. وتدعو عيانا للوقوف ضد السلطة، والتجربتين السياسية والبرلمانية. ويصبح تحريضهم عتبة لاستخدام السلاح وصناعة المفخخات. وكان هناك وزراء يدعون الى الجهل والتجهيل بواسطة معتقداتهم الخرافية واللامنطقية. يعكسون معتقداتهم تلك على موقعهم الوظيفي، بينما يقف المواطن ذاهلا من الجرأة الفائقة على طرح آراء جاهلة على مسمع ومرأى قادة الفكر والرأي.ورأينا أيضا رجال دين يستغلون منابر صلاة الجمعة لتمرير خطابات طائفية تشق لحمة المجتمع، أو تحريضات على نظام الحكم من جهة رفض العملية السياسية برمتها من مجلس رئاسة الى رئاسة وزراء الى برلمان واقليم. وذلك لتوجيه الأذهان نحو عمل مسلح، وعنف يخلخل الهدوء النسبي الموجود، للوصول الى غايات سياسية تريد ارجاع الساعة الى الماضي. كل ذلك وغيره يحدث أمام شاشة التلفاز، وعلى صفحات الجريدة، وفي الانترنيت، من دون أي خوف من المساءلة أو المحاججة. ومثل هكذا نمط من الخطابات يصعب وجوده او حدوثه في الدول الغربية على سبيل المثال، بسبب الصحافة بالدرجة الأولى والقانون الذي لا يحابي أحدا. الصحافة هناك عين يقظة على ما يجري في المجتمع، خاصة ما يظهر على لسان من هم في الواجهة. وهذا عكس ما نراه عندنا. والسبب هو تحوير دور الصحافة لكي تكون ابواقا، وطبولا، ومماسح أخطاء وتفاهات وتخرصات هذا الحزب أو ذاك، هذا النائب أو ذاك المسؤول. لم تعد الصحافة تشكل فلترا للنزاهة، ولا سلطة رابعة يحتج لديها المجتمع الا فيما ندر. اسباب حرف دور الصحافة عندنا كثيرة. لا يمكن محاججة نائب برلماني على تصريحاته الغثيثة او المحرضة أو الكاذبة، لأنه ينتمي الى تكتل يمتلك ميليشيا لا تتورع عن القتل، او التهديد به على اقل تقدير. ولا يمكن رصد تفاهات معالي الوزير التي يدلي بها في اجتماعات خاصة او عامة لأنه تابع لجبهة متنفذة تسكت صوت الصحافي او الجريدة، اذا اضطر الأمر بكاتم صوت او سيارة مفخخة، او على أقل تقدير، عبوة لاصقة من آخر طراز. اما ذكر الأسماء صراحة فيعتبر من محرمات الصحافة عندنا. لذلك عادة ما يتم النقد وذكر العثرات في الخطاب السياسي بشكل غامض ومرمز، فلا ينطبق على أي واحد من المسؤولين. وشيئا فشيئا تصبح الحرية الصحافية التي منحناها بعد سقوط النظام مفرغة من محتواها. تصبح مجاملة، وترميزات، وتشبيحات، لا تؤذي ولا تقيم سلطة رابعة، بل تعود على شاكلة الواقع العربي المتفسخ، ديوان عشائر للغث والسمين، وصاحب الصوت العالي، مهرجنا العتيد، هو صاحب الحق.