TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عالم آخر :نذور صانع المدفع

عالم آخر :نذور صانع المدفع

نشر في: 29 يونيو, 2012: 05:02 م

 سرمد الطائي تدخل الى المقهى وفي نيتك شرب كأس شاي على عجل، لكنك تدرك فجأة انك امام "صانع مدافع" عراقي، يتحدث عن مهنته بطريقة حزينة وغريبة ويستعرض حزمة من المعلومات العالقة في ذاكرته عن 20 عاما من العمل في الصناعات الحربية، حتى ان الامر يتطلب شرب كوب آخر من الشاي لان لدى الرجل ملاحظات تخلط الالم بالسخرية من مدفعية اشتراها العراق من امريكا مؤخرا!
صانع المدافع هذا اشبه بسلاح قديم في متحف. وهل هناك اجمل من متحف الاسلحة؟ كلنا نهرب من الحروب وندفع ثمنا غاليا لاقامتنا وسط ألف حرب، لكنك تشعر بنكهة التاريخ والملاحم وأيضا الفن، حين تكون امام "الانتيكات الحربية"، وتتمنى للحظة ان تتحول كل اسلحة الكون الى مجرد تحف في دور العرض.يقول "رئيس الحرفيين" الذي التقيته صدفة في المقهى، انه كان متلهفا لنقش اسمه على اول مدفع صنعه، لكن الخوف منعه من ذلك. وبينما يتحدث عن رغبته هذه، رحت اتذكر المدافع العملاقة القديمة المعروضة على شاطئ اسطنبول، وقد كتب على احدها بخط الثلث المنقوش على المعدن الاسود الرهيب: صنعه يوسف بن بولك عام 950 للهجرة لجيوش السلطان الفاتح!كل صانعي المدافع يحبون نقش اسمائهم عليها، الى جوار القادة الابطال الذين سيستخدمونها. لكن صانعنا يقول انه كان يخشى ذلك، وانه محبط من القادة الذين لم يكونوا ابطالا وأدخلوا البلاد في حيص بيص الهزائم.اسأله: هل كنت تقوم بصب الحديد في معادن لصناعة انبوب المدفع "السبطانة". فيرد علي بغضب: يا ابله لا يمكن صب السبطانة في قالب لأنها ستنفجر حتما ولن تكون متماسكة كفاية، كنا نأتي بقطعة حديد عظيمة ونقوم بثقبها عبر آلة عملاقة حصلنا عليها من السوفيت. عليك ايضا ان لا تترك الفوهة هذه ملساء، بل ستصنع داخلها استدارات حلزونية كي تدور القنبلة داخلها وتدور وتدور، فتخرج مسرعة قادرة على اختراق السماء وضغط الهواء.شيخ عجوز هو اليوم يجلس في المقهى وينظر في وجوه الناس التي تتغير دوما، ويتباهى امامهم بأنه "اثار اعجاب الاسبان" حين صنع قطعة حساسة من بعض المدافع. يقول ان زملاءه تركوا البلاد "وأخذتهم امريكا" وهم اليوم يعيشون حياة سعيدة وخاصة بعد ان مرر باراك اوباما قانون الضمان الصحي "رغم انف الكونغرس"!صانع المدافع الذي شارك في تزويد الحروب ببارودها، يقول انه يخشى هذه الايام مدافع التناحر والفساد والتزوير والتسيب والهدر، فهي اخطر من كل الحروب التي "صارت بروسنا"، وهو حزين لان الحرب لا تنتهي في عائلته. فبعد ان تحول الى متقاعد، جاء دور ابنه الضابط في الجيش، وقد سبق رئيس الحكومة الى الموصل قبل ليلتين "لتأمين زيارة رئيس الوزراء مع اربع فرق عسكرية اخرى"!. يواصل "ابني ينام في الشارع مع آلاف الجند من اجل اجتماع لن يستغرق اكثر من ساعة هناك".زوجة صانع المدفع تريد ان "تنذر خروفا" لسلامة ولدها. وصاحبنا يؤمن بالنذور. ويتذكر ان التصنيع العسكري استخدم "الخراف ونذر الذبائح" خلال بناء الجسر ابو طابقين في بغداد. فهذا الجسر منجز عراقي مئة بالمئة، لكنه كان يفوق الطاقة العادية لكل خبراتنا كما يقول. فإمكانات التصنيع العسكري عجزت لاسابيع عن تثبيت الرافعات العملاقة وسط تيار نهر دجلة السريع "كان الكرين ينقلب وسط الشط كل مرة، وخسرنا 5 رافعات مهمة. وسيف حسين كامل مسلط على رقابنا، ويجب ان ننجز الجسر بكل طريقة". وهنا تنبه احد المدراء الى امكانية اللجوء للغيب ونذر الخراف لذبحها بدلا من "ذبح المهندسين" فاستلف من "نثرية الجسر" وذبح 5 خراف وزعها على الفقراء، وراح يلطخ يديه بدمائها ويطمغ بها حافة "الكرين الاخير" متوسلا السماء ان لا ينقلب وسط دجلة. يقول ان النذور كانت حاسمة والرافعات العملاقة لم تنقلب وسط دجلة ثانية، واكملنا بناء الجسر ابو طابقين، بخبرات حرفيين لم يتسن لهم ان يكتبوا اسماءهم على ما صنعوا من مدافع، كما تسنى للعثماني يوسف بن بولك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram