سرمد الطائي 3 لحظات تأسر البال هذا اليوم. الاولى هي تعليقات كتبها الاصدقاء على مقال الامس "نذور صانع المدافع" ذكروا فيها امثلة عديدة على لجوء نظامنا السابق الى الغيبيات والنذور للرب وللاولياء الصالحين ايام الشدة والازمة التي لم "تعد على خير" طبعا ولا نفع لها نذر او دعاء.
ومن اطرف التعليقات التي تلقيتها معلومة تقول ان صواريخ سكود التي طورها العراق تحت اسم "الحسين والعباس" كانت تحمل الى الاضرحة المقدسة في الاعظمية والكاظمية واحيانا النجف، ويطوف بها الجند طلبا للبركة وذلك قبل اطلاقها على ايران او السعودية او اسرائيل. كما ان بعض "القادة" كانوا ينحرون الذبائح قرب منصة اطلاق الصاروخ واحيانا قرب عجلات الطائرات الحربية او حتى المدنية المكلفة ببعض المهمات الصعبة والحساسة، طلبا للبركة ولنجاح تلك المهمة!وماذا بعد، وماذا على الشعب ان "ينذر" ايضا طلبا لحصول البركة والوصول الى بر امان ما؟ ولماذا لا يجرب ابطال العملية السياسية هذه الطريقة، (ومن قال انهم لم يجربوها) فلعل السماء التي خذلت صدام حسين، لا تخذلهم و"يستروا علينا" نحن الذين جمع الله علينا في لحظة واحدة، حر الصيف وغباره، وعطلات المولدات، وتحذيرات دولة القانون من زعزعة الاستقرار لو جرى سحب الثقة (لا سمح الله) من السلطان.اما اللحظة الثانية فتتعلق بالسلطان نفسه. الجميع تقريبا في منتجع دوكان اليوم، الا هو. انه يشعر بعزلة كبيرة شاء ام ابى، ويحاول اقناع نفسه بأنه لا يحتاج الصدر ولا بارزاني ولا زعماء العراقية، ويمكنه شراء نوابه "بالنفوذ والهيبة". ويحاول تعويض وحشته وعزلته بأن يحيط نفسه بعدد كبير من العساكر والمدرعات وعقود النفط الجديدة والمال الكثير. وكان في وسع كل هذه العوامل ان تمثل عنصر قوة لنا جميعا لو وافق على التمسك بقواعد التهدئة، بدل الاستعراضات والازمات التي افتعلها طيلة الشهور الماضية، كي يشاغلنا عن الفشل الحكومي الرهيب المستمر طيلة 6 اعوام من حكمه.اللحظة الثالثة التي تشغلني اليوم هي "فوق الاطلسي". فالصديق حيدر رعد الكاظمي من ابرز الشباب الذين عملت معهم في المؤسسات الصحفية، وخلال يوم عمل عادي لا يهدأ له بال الا حين يعثر على اصعب مصادر المعلومات وأهمها، ويأتي منها بقصص واخبار مفيدة وتستحق الاحتفال. امازحه احيانا واقول له: هل يمكنك ان تعثر لي على رقم هاتف زوجة الرئيس الاسرائيلي؟ فيقول: ساعتين ويكون يمك!ومن المفترض ان يكون حيدر هذه اللحظة على متن طائرة تعبر الاطلسي نحو تجربة جديدة في امريكا، من المؤكد ان سينجح فيها، لانه من الاشخاص الذين يمتلكون الجرأة لدخول مجالات متنوعة تطور الخبرات وتراكمها.لكن الامر مؤلم بالنسبة لبلادنا التي صارت طاردة للكفاءات وتشهد نقص الخبرة في كل مجال. افكر في كل الاصدقاء ذوي الكفاءة والذين تشعر بوحشة غيابهم في البلدان البعيدة. آخر كلمة قالها لي حيدر بعد امسية وداع متواضعة هي انه سيحاول ان يعثر في كاليفورنيا على "حكمة الشيخ سياتل" آخر زعيم للهنود الحمر والذي كان يثير اعجاب "الاباء المؤسسين" في واشنطن حتى انهم اطلقوا اسمه على مدينة سياتل المعروفة.الشيخ سياتل كان آخر زعيم هندي احمر يمتلك نفوذا، وشاهد قبائل امته وهي "تنقرض" وتهرب وتهاجر وتتبعثر بسبب الحرب مع الرجل الابيض. سياتل حاول اعتناق المسيحية ليدعو الرب وينذر نذورا، من اجل تجنب مصير الانقراض والهزيمة، لكنه يئس فيما بعد وحاول ان يستسلم بكرامة. وحين تيقن ان الشعب انقرض عمليا وتحول بقيته الى اقلية قليلة وسط المالكين الجدد القادمين من اوربا وافريقيا، راح يقول لهم في "خطبة سياتل" التي غدت شهيرة فيما بعد وهي من اجمل القطع النثرية التي سمعتها في الاونة الاخيرة: "وفي الليل، حينما يلف الصمت مدنكم وقراكم حتى تخالونها خلواً من الحياة، فإنها ستكون محتشدة بأشباح الاسلاف، أصحاب الدار العائدين، الذين ملؤوا هذه الأرض الجميلة ذات مرة والتي لا يكفون عن حبها".
عالم آخر:خطبة الشيخ سياتل
نشر في: 29 يونيو, 2012: 05:50 م