احمد المهنا التشبث بالسلطة مكلف على الدوام. وأكلافه تتفاوت من متشبث لآخر، ومن نظام لآخر، ومن بلد لآخر. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية الى اليوم لم يدفع بلد ثمنا ابهظ مما دفعه العراق جراء التشبث بالسلطة. ان هوس السلطة حول البلاد الى ملحمة عنف وقسوة وفقر.
وكانت المواجهة مع العالم في حربي الخليج الثانية والثالثة أشد فصول هذه الملحمة هولا. كثيرون نصحوا صدام بالإستقالة. ظنوه بشرا سويا. وقد أثبت أنه لم يكن كذلك أبدا. وضع العراق أمام أكبر قوة نارية في التاريخ. وما كان ذلك بالأمر الذي يسهل تصديقه. اذ ما أمله وما نفعه في مثل ذلك الوضع؟ لابد أن كل عاقل طرح على نفسه هذا السؤال. لكنها السلطة. السلطة التي تبطش بالعقل. كم أعداد ضحايا صدام؟ كم كلفت حروبه البلاد؟ ان الأرقام ذات جدوى عظيمة في كل المجالات عدا المآسي. فمع الضحايا والخسائر المادية تخرس الأرقام وتنعدم رؤية ما وراءها من بشر وموجودات. الأرقام تتكلم في العلوم والإعمار، وتصمت في حالات العبث بمصائر الناس والبلدان. تقرأ أو تسمع رقم المليون قتيل دون أن تتأثر أو تهتز. ولكن رؤية مأساة فرد واحد بالعين المجردة يمكن أن تهز الملايين.ونحن لا ارقام لنا لنتفكر. كما لا نرى أفرادا لنتألم. التاريخ جامد. والفكر عاطل عن العمل. لم تترجل المآسي عن العراق ليجد الوقت المناسب لمعرفة الأرقام معرفة حقة، أو ليتذكر الأفراد تذكرا ملائما. البلد مازال ينزف. الأفراد مازالوا يقضون ويتعذبون. والرجال الجوف، عبيد السلطة، لا يرون ولا يشعرون. ان أبشع ما في تركة صدام هو موت الإحساس. راح الرجل وظلت تركته حية تفعل في النفوس ما تفعل الوحوش في الفلاة.ولحسن الحظ ان "السلطة" عندنا اليوم ليست حرة وانما مقيدة. الضعف العسكري قيد. احباط الشعب وقلة استجابته للأهواء الطائفية قيد. توازن القوى السياسية والاجتماعية قيد. تعدد مراكز القوى قيد. انعدام المصلحة الاقليمية في حرب أهلية قيد. العلاقة "الخاصة" مع الولايات المتحدة قيد. وكل هذه القيود جعلت من "الدستور" تاج القيود.من دون هذه السلسلة من القيود لم يكن الدستور ليأخذ هذا الموقع "الحاكم". القيود أعطته قوة الإلزام، وبوأته سلطة الاجماع. في ضوئه، مثلا، تبدو دعوات بعض أعضاء مجالس المحافظات لإقليم الوسط والجنوب، أشبه بحركات صبيانية. لكأن الدستور رجل حكيم وهؤلاء صبيان معاندون: اي فيدرالية تولد من سحب الثقة بالحكومة يا شباب؟ ولماذا تكون الفيدرالية باطلا مع المالكي وحقا مع غيره؟دعوات الفدرلة البائسة هذه لا تجادل الدستور، وانما تجادل فريق سحب الثقة من الحكومة. وهو جدل يصدر من ذات المنبع الذي دمر العراق، منبع التشبث بالسلطة. انهم يقولون، أو بالأحرى يهددون: إما المالكي أو تقسيم العراق. وهم بذلك يعطون الفيدرالية معنى تقسيميا لا وحدويا، ويقررون في تجاهل للشعب وتجاوز عليه، ويحاولون تعبئة جمهورهم ضد جماهير القوى الأخرى. واذا نحن على شفا صراعات او حروب أهلية. والخلاصة انهم يتلاعبون بمصير البلاد تشبثا بالسلطة، تماما مثلما كان يفعل صدام.والبركة بالقيود الملجمة لأهواء التشبث بالسطة. فكلما كثرت وتشابكت وتعمقت، قلت المعاناة ونمت الحكمة وتوطدت السلامة.
أحاديث شفوية:التشبث بالسلطة
نشر في: 29 يونيو, 2012: 05:54 م