احمد المهنا المعركة السياسية الدائرة اليوم تتمحور على شخص رئيس الوزراء. وذلك بحد ذاته دليل على أن البلد قصة فشل. فعندما تتلخص سياسة بلد ما في شخص بعينه، فمعنى ذلك غياب أو ضعف فاعلية المؤسسات. وكان "عراق صدام" بين بلدان معدودة في العالم وصلت الى أعلى مراحل سياسة "الشخصنة". فما كانت في ذلك العهد "مؤسسات"على كثرتها. والدليل أنها انتهت بنهايته مثل فص ملح وذاب. ففي اللحظة التي سقط فيها خلت المعسكرات ومراكز الأمن والشرطة والوزارات والمؤسسات والدوائر، وكأنه لم تكن هناك دولة.
الصعب أن تصل "الشخصنة" اليوم الى مثل ذلك الحد الرهيب، لأسباب كثيرة، منها وجود "مشروع" نظام ديمقراطي، قائم على دستور دائم، وعملية سياسية متعددة الأطراف، وبرلمان يضم هذه الأطراف. ورغم ذلك تضخمت ظاهرة "الشخصنة" في الحكم. ان المهمة الأساسية التي كان على السياسة انجازها في مرحلة ما بعد 2003 هي بناء السلطة. والسلطة في المقام الأول هي الجيش والشرطة والمخابرات. وقد أخذ المالكي على عاتقه منفردا هذه المهمة، فأصبح، الى جانب كونه القائد العام للقوات المسلحة حسب الدستور، وزير الدفاع والداخلية والأمن الوطني والمخابرات خلاف الدستور. وهذا يعني، بكلمة، احتكار القرار الأمني، وبالتالي "شخصنته"، أي ربطه ربطا محكما بشخصه.القضاء، وهو الضامن الأصيل لوجود دولة مؤسسات، لم ينج بدوره من "تأثيره" الشخصي. والأمثلة على ذلك كثيرة. ان المالكي ينسى في العديد من الحالات ان القضاء سلطة مستقلة. وآخر الأمثلة على هذه الحالات هو اصداره أمرا باعادة التحقيق في قضية ليث الدليمي عضو مجلس محافظة بغداد المتهم بالارهاب، بعد اعلان الأخير أمام الإعلام انتزاع "الاعتراف" منه بالتعذيب، في الحادثة المعروفة. فلكثرة "ميانة" رئيس الوزراء على القضاء ينسى ان "العدل" خارج نطاق سلطته. والمثل البارز على "تأثيره" في القضاء هو رضوخ الأخير لرغبته في اصدار قرار قضى بوجوب اشراف مجلس الوزراء على "الهيئات المستقلة" التي نص الدستور على "ارتباطها" بمجلس النواب. ويتعلق الأمر بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات،هيئة النزاهة، البنك المركزي العراقي، هيئة الاعلام والاتصالات، ديوان الرقابة المالية، الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة. الاعلام مثل فاقع آخر. فالمفروض، حسب القانون الذي أسست بموجبه، أن تكون شبكة الاعلام العراقي هيئة مستقلة، ولكنها خاضعة أيضا للسلطة التنفيذية. وقد كانت كذلك في الواقع منذ حكومة أياد علاوي.وبعبارة موجزة فان الرجل وضع بين يديه مؤسسات الأمن والعدل والحقيقة والانتخابات والمال والرقابة. وقد أدى تركيز السلطات بيديه على هذا النحو الى اضعاف البرلمان. والسؤال المهم اليوم هو: هل يندفع خصوم المالكي في معركتهم لاسقاطه انطلاقا من دواعي الغضب على الاقصاء والتهميش، أم بهدف تحويل السياسة من الشخصنة الى المأسسة؟ ان السبب الأول يتعلق بالصراع على السلطة والثروة. وهو ابعد من أن يكون صراعا بناء. أما السبب الآخر فيرتبط بوضع البلد على طريق النجاح. ان المأسسة (وطبيعتها احتوائية لا اقصائية) هي ما يجب أن تكون عليه غاية معركة سحب الثقة عن المالكي. فمن دونها لا يعدو الأمر أن يكون راح زيد جاء عمرو، وإن خمد بركان وخف احتقان. صحيح انه لابد من وقف التوتر والتدهور، ولكن الأجواء الهادئة لا تبني وحدها دولة المؤسسات.
أحاديث شفوية:الشخصنة والمأسسة
نشر في: 30 يونيو, 2012: 06:14 م