الدكتور عبد المعطي الحفاف عشت في الاتحاد السوفيتي سبع سنوات ( 1960- 1967) ودرست في جامعة موسكو (كلية غوركي للآداب)، وأكملت فيها الدراسة الجامعية الأولية والعالية وتعرفت على شخصيات الأدب الروسي المتمثلة بالرومانسية في أدب تورغينيف، والواقعية في أدب تولستوي، والشعر في أدب بوشكين، ثم تعرفت على الأدب السوفيتي الذي يتحدث عن شخصيات من ولادات المجتمع تتسم بالقوة والإصرار والتحدي والشد الاجتماعي.
كما تعرفت على المواطن السوفيتي الذي يقرأ في كل مكان: القطار والحافلة والمنتزه والحديقة. أما اليوم فأنا اسمع قصصاً عن إنسان آخر يقرأ الروايات البوليسية وكتب التسامح فلماذا حدث كل هذا؟ المعروف أن غورباتشوف، الرئيس السوفيتي الأسبق، بدأ مشروعه في إعادة البناء ..(بريسترويكا) في التسعينيات من القرن الماضي، وانتهى هذا المشروع ليس بإعادة البناء إنما لعدم البناء السوفيتي وبناء مجتمع جديد اسمه "روسيا".إنني اعرف ماذا تعني روسيا في الذاكرة لدى من عرفها وعرف الأدب الروسي، ولكنني لا أجد تفسيراً كافياً لاصطلاحات بدأت بالظهور في المجتمع الروسي تصف الأدب بأنه مشروع أدبي بدلاً عن " إبداع أدبي" وبعد مدة قصيرة أصبح هذا المصطلح "المشروع" مستهلكاً لكثرة من لديهم "مشاريع" يرغبون في تسويقها حتى أصبحت حكمة "مشروع" كثيرة الاشمئزاز. ورافق ذلك ظهور شريحة من القراء تبحث عن التسلية في نماذج من الأدب المسلي الذي حمل اسم "ما بعد الحداثة"، وهذه التسلية تأخذ شكل الفكاهة والكلمات المتقاطعة وقراءة الطالع والكف والغرائبية وصولاً إلى التسلية السطحية المخجلة.في هذه الفترة انتشرت ترجمات الأدب الأمريكي الهابطة المنشورة بلغة سيئة، وظهرت روايات باللغة الروسية لكتاب عاصروا الاتحاد السوفيتي، ومنهم " بوريس اكونين" نموذج هذه الحلقة من دراستنا للأدب الروسي المعاصر. نشر اكونين روايته الأولى" ازازيل" في عام 1998 ولم يتم بيع نسخها لأنها كتب لقارئ لا يبحث عن هدف ، بينما اعتاد القارئ الروسي على متابعة الأهداف في الأعمال الروائية. ولكن اكونين واصل مشروعه المسلّي بكتابة رواية ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، من خلال الشركات التجارية وليس المحافل الأدبية، فأصبح الرجل "علامة تجارية" أكثر من كونه أدبياً ، وكانت صفة العلامة التجارية" معرفة له. وعندما سأله احد الصحفيين: لماذا تكثر من كتابه الرواية البوليسية مع أن هذا الجنس الأدبي لم يكن منتشراً في الحقبة السوفيتية ولم يعثر عليه القارئ؟قال : أكتب لأن روسيا اليوم هي البلد الأكثر جريمة في العالم، كما أن الرواية البوليسية لم تكن معروفة في المجتمع السوفيتي، لذا فالتعريف بها نوع من الحداثة. وسأله صحفي آخر : ماذا تأخذ معك للقراءة في القطار؟ قال: آخذ أعمال الكتاب الواقعيين لأحوّلها إلى خيال، فأنا لا أقرأ الأعمال الواقعة للتسلية وإنما للعمل.ما أشبه ما نراه اليوم في روسيا مع نراه اليوم في بغداد، عندما يحاول بعض الكتاب تحويل الإبداع إلى تسلية، ولكن الفارق أن جذور الإبداع في العراق عميقة يصعب اقتلاعها، كما أننا نتوقع أن جذور الإبداع في روسيا هي الأخرى عميقة وان ما نراه مجرد سحابة صيف لا مطر ولا نفع فيها.
"النمـــوذج بوريــــس اكــــونــــين" -1-
نشر في: 30 يونيو, 2012: 06:20 م