فوزي كريمبين الإنسان وبين الشاعر الذي فيه مساحةٌ بالغةُ الخصوبة، تُكتبُ فيها القصيدةُ الجيدة. ولكي أُبسّط الأمر أكثر فنحن عادة ما نتعامل مع الشاعر على أنه إنسان، ومع هذا الانسان على أنه شاعر. وهذا يعني أن ثمةَ مسافة بينهما غير مرئية.
الشاعرُ نفسه لا يتصرفُ ويفكرُ كشاعر على امتدادِ دقائقِ حياته. فهو عاملٌ، موظفٌ، عازبٌ، أبٌ وله مسؤولية بيت وأولاد، أو سكير...الخ. ولكنه في لحظةِ الكتابة يتلاشى زمنُ الحياة العملية فيه، ويحلُّ زمنٌ آخر داخلي. تتلاشى اللغةُ النفعيةُ كوسيلة، وتحلُّ بدلَها لغةُ الوسيلة ــــ الغاية، التي تنصرفُ إلى مصادرها الداخلية الخاصة: المخيلة، الذاكرة، العاطفة، الأفكار. الانسانُ، ابن الظرف الآني، الذي تتحكّمُ به ردودُ الأفعال في المشاعر والأفكار، حين ينفرد بكتابة قصيدة، لا بد أن تكون قصيدتُه وليدةَ ردودِ الأفعال هذه، بكل ما تنطوي عليه من مشاعرَ وأفكار آنية. والقصيدةُ الجيدة ليست وليدةَ ردودِ أفعال. النموذجُ المثالي لهذا النمط من الكتابة الشعرية يتعيّن في قصيدة المناسبة، والقصيدةِ السياسية المباشرة. القصيدةُ الجيدة، حتى لو أوحت بها مناسبةٌ، أو حدثٌ سياسي، تسعى إلى تقليم هذه المناسبة وهذا الحدث من زمنيتهما، والانطلاق بجذوتهما إلى أفقِ الشعر الذي يتسم بالكُليّة. وكأن القصيدة هنا تنطلقُ من الزمني إلى اللازمني. من التاريخ إلى الأسطورة. يتراءى لي أن أفقَ الشعر هذا هو أفق المساحةِ بالغةِ الخصوبة، التي تتوسط بين الإنسان ابن الخبرة وبين الشاعر داخله. القصيدةُ الجيدة تُكتب من جُهديهما. ولأضرب على ذلك مثلاً لمزيدٍ من الإيضاح: عددٌ كبير من القصائد الذي تكتبه الشاعرةُ العربية، وفي هذه المرحلة المتأخرة على وجه الخصوص، يُملى بصورة مباشرة من ردود أفعال الأنثى كإنسان. وبشأنِ حبٍّ موجّهٍ لذَكَر على الأعم. القصيدةُ في حالٍ كهذه لن تخرجَ من دائرة البوح، والصبوةِ الحالمة أو الإيهامية، والحشرجة العاطفية. هناك شيء ناقص يُبعد النص من اللمسة اللازمنية التي تتمتع بها القصيدة الجيدة. قصيدة الحب هذه تولّدت مباشرة من حاجة الأنثى، في غفلة عن الشاعر الذي بداخلها، إلى التعبير عن عواطف آنية، مائعة ومسُطّحة. لم تكنْ وليدةَ المساحة بالغةِ الخصوبة التي يُسهم فيها الشاعرُ الكامن داخل كيان الإنسان. لأن هذا الشاعر، لو توفر، لن يرتضي "ردةَ الفعل" العاطفية، والحاجة إلى التعبير عن المشاعر، والتي يتمتع بها كل إنسان دون استثناء. الشاعرُ يريد "فعلاً"، لا ردة فعل. يريد أن يأخذَ جوهر خبرة الحب وينطلق بها إلى مدار بالغ الجدة، لا تحتفظ اللغةُ فيه بدورها كوسيلة، بل تصبح وسيلة وغاية في آن. لأن هذه اللغة تفلت من أسر المسعى النفعي، الذي تفرضه الحياة اليومية. القصيدة التي تكتبها المرأةُ في الملاحقةِ العاطفيةِ المشبوبةِ للرجل، بحيث تمنحه خصائص إيهامية، تبدو لي محرجة، ضيّقة الأفق. ولا أحسب أن الشاعرةَ الجيدة، لو توفرتْ داخلَ كيانها الإنساني، سترتضي هذا الشاغل العاطفي سريع الزوال. قصيدةُ الحب لدى الرجل لا تختلف كثيراً عن هذا. الشاعرُ الضعيف، حتى لو كان نجماً، لن يتخطّى الملاحقةَ العاطفية المشبوبة للمرأة التي يحب. إنه في حقيقته لا يكتب شعراً، بل غزلاً زمنياً، ضيّق الأفق. وهو تعبير عن حب قد يجد استجابةً جماهيريةً واسعة. ولكن لا شأن لهذه الجماهيرية الواسعة، وهي ظاهرةٌ لا عيب فيها، بالكتابة التي نسميها شعراً. الظاهرة التي لا عيب فيها حاجة إنسانية واجتماعية، تنتسب إلى حقل التسلية. وهي حق مشروع من حقوق الناس. هذه متطلباتُ القصيدة الحديثة. وهي متطلباتٌ جديدةٌ بالتأكيد، لا عهد للقصيدة القديمة، التقليدية بها، إلا في ما ندر. ولعلها متطلباتٌ تبدو للقارئ الذي ألِفَ الشعرَ القديمَ والتقليديَّ مبالغةً غيرَ ذات معنى. القصيدةُ الحديثة وُلدت في الغرب، ولقد تعلمناها من الغرب بصورة صحية تماماً. السياب كتب قصائدَ حبّ لوفيقة، والبياتي كتب لعائشة، وصلاح عبد الصبور لامرأةٍ من فيينا، والبريكان كتب من السجن لفتاة لم يرها. هؤلاء حققوا هذا الشرط بصورة ناجحة. لم يكتفوا بالتعبير عن الرغائب الحسية المباشرة، ولا عن الصبوات العاطفية التي قد تكون إيهامية، وسريعة الزوال. بل تولد وعي شعري متعدد المصادر من الشاعر والإنسان فيهما، في تلك المساحة بالغة الخصوبة التي تمتد بينهما.
البرج العاجي: عن المساحة الخصبة تلك!
نشر في: 1 يوليو, 2012: 06:51 م