علاء مشذوب عبودليس من حقنا أن نبتّ في مدى صلاحية القرار الذي تصدره أي محكمة مختصة بالجنح أو الجنايات، ولكن من حقنا، أن نعلّق على ضفاف تلك الأحكام لكونها تمس مجريات حياتنا الاعتيادية.ويبدو أن العقد الأول من القرن الحالي وما يتبعه من عقود سوف يشهد محاكمات كثيرة لرؤساء دول عربية كثر، وآخرها كانت هي محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك وولديه، ووزير داخليته ومعيته.
حيث ابتدأ السيد المستشار افتتاح محكمة النطق بالحكم بديباجة جميلة ومقتضبة عن عظمة ثورة 25 يناير، وشهدائها ورجالها من الشباب، ومن ثم نطق حكم بالسجن المؤبد لكل من محمد حسني مبارك وحبيب العدلي، وللأسباب الموجبة وهي الاشتراك بجرائم القتل والشروع بجرائم القتل الأخرى وبراءته من التهم الأخرى من استغلال نفوذ أو الإضرار بمصالح البلد.وبراءة كل من علاء وجمال محمد حسني مبارك، وكذلك براءة كل من أحمد محمد عبد الرشيد وحسن يوسف وأسامة يوسف وعمر عبد العزيز وآخرين، حسب الاتهامات المثبتة في أوراق الدعوة.ورغم أن الكثير من القانونيين من الذين استضافتهم القنوات العربية لتسليط الضوء على هذه المحاكمة باعتبارها وحسب قولهم محاكمة القرن، من احتمال إصدار حكم إعدام لمحمد حسني مبارك وحبيب العدلي أو لأحدهما، وبالسجن المؤبد لأبناء الرئيس المخلوع وبالباقين.إلا أن الأحكام الصادرة قد فاجأت الجميع، وأعتقد أنها حقيقية عادلة في كونها وازنت بين نص القانون الجنائي وروحه، وأخذت في نظر الاعتبار الجوانب السياسية والأوضاع المضطربة داخل بلد بثقل مصر، وأنه لابد من أن تمضي البلاد إلى حيث المستقبل من دون البقاء كثيرا عند الماضي وحقبة حكم جنرالات حقبة الحرب العالمية الثانية ومن ثم الباردة. وفي تتبعنا التقلبات السياسية في مصر، نجد أن البرلمان المنتخب كانت قراراته في ما يخص رجال الحزب الوطني والتي يطلق عليهم بين عامة الناس ونخبهم بالفلول، فيها موضوعية كبيرة في كونها منعت فقط من كان وزيراً أو رئيس وزراء ونائبه في الحزب الوطني الحاكم سابقا من أن يمارس العمل السياسي حسب قانون العزل السياسي. وتاريخ مصر السياسي فيه من هذه الشواهد الكثيرة حيث تذكر الكتب أن الرئيس السابق جمال عبد الناصر عندما أتمّ ثورته أو انقلابه على الملك، سمح له بأن يأخذ عائلته وأمواله الخاصة وأن يودعه تحت 21 طلقة مدفعية.وحقيقة كل ذلك يترك الأسى مقارنة بالتاريخ العراقي الموغل بالدم والسحل، فما أن تأتي حقبة سياسية حاكمة حتى تلعن التي قبلها، تاجها التخوين، سلاحها الموت، رحمتها الاعتقال والسجون، لا تقبل بالرأي الآخر، الدكتاتورية هدفها.والمحكمة القريبة لرئيس النظام البعثي السابق وزبانيته، كانت خير دليل على غزارة الدم التي سالت فيها، وما تبع ذلك من لجان اجتثاث البعث وأزلامه، ومن قبلها المحاكمات العلنية والسرية التي أقامها النظام البعثي ضد مناصريه ومعارضيه، والمجزرة التي واكبت مؤسس الجمهورية العراقية الأولى بالعائلة المالكة. يبدو أن أحدهم يسلّم السيف للآخر ليقتل به مناصريه ومن ثم معارضيه، وأن هذا البلد لم يستكين فيه نهر الدم أبداً، حتى ينقضي آخرنا.فهل من مستفيد من المحاكمات المصرية التي تصرّ على عدم إهدار الدم لفرعون مصر وأزلامه، حتى لا يسنّوا سنّة على من يخلفهم أن يتبعها. وهل من حكماء يعقدون جلسات المصالح بينهم لينقذوا هذا البلد الذي يغرق في اختلافاتهم، لأننا لم نسمع يوما من أفراد الشعب بمختلف مشاربهم من مثقفين ونخب وشيوخ عشائر بأن العراق سوف يتفتت، لكننا نسمعها كل يوم من السياسيين ، فهم يصرون على تفتيت بلد لأنهم يحبون هذا السياسي أو ذاك.
غياب الدم في المحاكم المصرية
نشر في: 1 يوليو, 2012: 06:53 م