احمد المهنافقدت مصر ومعها العالم العربي فرصة أن تكون محاكمة مبارك ورجاله محاكمة لعصر عربي، أن تكون فضيحة للإستبداد و"مدرسة تنوير" بقيم المسؤولية والعدالة والحرية وحقوق الانسان. أو أن تكون بعبارة أخرى محاكمة نظام جديد لنظام قديم. فما أظهرته هذه المحاكمة هو أن "النظام السابق يحاكم نفسه" بتعبير البرادعي.
ما جعل التهم جميعا من الوزن الخفيف. فمن يستطيع أن يقسو على نفسه؟ لقد عمل التكييف القانوني للقضية على تضييقها من محاكمة نظام سياسي الى محكمة جنائية خاصة بمقتل متظاهرين أثناء "ثورة يناير" وبتلقي رشوة. وهكذا تعاملت المحاكمة مع مبارك وكأنه جنرال أو موظف فاسد، وليس رئيسا للجمهورية. وكان المفترض أن يحاسب الرجل على تهم بحجم منصبه ونظامه. وهي من نوع كبت الحريات السياسية، تزوير الانتخابات، التضليل، التعذيب الممنهج، اساءة استخدام السلطة، والفساد المعمم. كما تتعلق بحنثه لليمين الدستورية الخاصة بحماية حرية الشعب وكرامته، بينما حكم الرجل بالطوارىء شعبا مغلوبا على أمره يعيش نصفه تحت مستوى خط الفقر. وأخيرا قتل المئات أثناء احتجاجات يناير 2011.أي ان القضية بكلمة موجزة هي الاستبداد. هذا الذي برع الكواكبي في وصفه حين قال ان "الاستبداد لو كان رجلا يحتسب وينتسب لقال أنا الشر، وأبي الظلم، وامي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة". والمفارقة ان "المقالة" التي قرأها القاضي قبل النطق بالحكم تقول شيئا من ذلك في حكم مبارك، لكن من دون أن تكيف التهم على مقاس ذلك الشيء من القول (اعداد لائحة الاتهام مهمة النائب العام على اي حال). والملاحظ ان قراءة القاضي لـ "مقالته"، عجت بأخطاء نحوية لم تسلم منها جملة واحدة. وهذا أمر مشين. فالتقليد العالمي يلزم القضاة بكفاءة لغوية عالية، حفاظا على هيبة القضاء الذي هو أرفع سلطات الأمم. لكن يبدو ان مصيبة لغوية عمت القضاة في البلدان العربية. ولعلها أشد عندنا بالعراق. فقد سمعت قاضيا سابقا وبرلمانيا حاليا، وهو يستهل القول المأثور (العدل أساس الملك) بالبسملة ويختمه بصدق الله العظيم، ظنا منه أنه آية من آيات الذكر الحكيم! وبالعودة الى "محاكمة القرن"، فإن الطابع التقني والفكري الضيق العتيق الذي قامت عليه، يبدو وكأنه صمم للخروج بأقل الأحكام. فالجميع، عدا مبارك نفسه ووزير داخليته، برئوا. جمال، مثلا، برىء لأن تهمته قلصت الى شراء منزل بأقل من سعر السوق! وهي فوق هذا أسقطت بالتقادم. ماذا عن حكمه البلاد (عدا الجيش والمخابرات) فعليا وخارج قانون مدة 10 سنوات بعد "تقاعد" والده المريض بالسرطان؟ كبار مساعدي وزير الداخلية برئوا لانعدام الأدلة. طبعا تضيع الأدلة. وكيف للشرطة أن تتعب نفسها في تقديم الأدلة على من كانوا كبار قادتها حتى الأمس القريب؟ انها قد تساعد على اتلافها لا توفيرها. فجهاز الشرطة ظل هو نفسه، وما بناه الاستبداد في عقود لن يتغير في شهور. ومع ذلك فإن الأحكام، خفة او شدة، قلة أو كثرة، ليست هي القضية. وانما القضية هي تشريح مساوىء نظام قديم يقوم على امتهان كرامة الانسان، والتطلع الى تجاوزه نحو نظام ينتسب الى روح العصر وقيمه. وهذا ما فشلت فيه المحاكمة فشلا ذريعا.
أحاديث شفوية: نظام مبارك يحاكم نفسه
نشر في: 1 يوليو, 2012: 06:58 م