علي حسين ينتمي عزيز عبد الصاحب إلى جيل من الفنانين الذين آمنوا بأن الفن جزء من الحياة وإن الحياة ما هي إلا مسرح كبير يعيش فيه الجميع أدوارهم بشكل كامل.. ألم يقل المعلم ستانسلافسكي "إن المسرح هو شكل محدد لعكس الحياة وأحداثها فنيا" هذا المسرح الذي كان رفيقا لعمر عزيز وقرينا لروحه وتوأما لفكره ومعتقداته والحلم السعيد بالنسبة إليه وقد أورثه حب المسرح هذا، عدم الانسجام مع الظروف، ونهما لا يفقد عنفوانه للبقاء جامحا متوترا حر العقل والجسد والمصير. وأورثه نظرة متفائلة للحياة وعشقا للحرية..
ولعل ما يثير الانتباه في تجربة عبد الصاحب هو ذلك الارتباط الوثيق بين سيرته الذاتية من حيث هي حياة خاصة وتجربته الفنية والثقافية باعتبارها تجربة تنتمي لحقل إبداعي له ضوابطه وقوانينه العامة. ومن هنا استحالة فصل أعماله الفنية عن حياته. فقد كانت هذه الأعمال وإن اتخذت أشكالاً مختلفة "نصوص مسرحية، مقالات نقدية، ادوار تمثيلية، قصائد" أكثر من تعبير عن أفكار ومفاهيم. إنها يومياته وتفاصيل هذه اليوميات..بهذا المعنى يمكن أن نقول إن عزيز عبد الصاحب كان ابن اللحظة المعاشة، أفكاره ومشاريعه تنفجر من هذه اللحظة تماما كما ينفجر الدم من الشرايين..الفن وعالمه السحري اتخذ عند عزيز حركة الحريق في غابة عظيمة وبالتالي هو الانفجار الذي يكسر كل انتظام. هو شيء من الحياة المتمردة على الأطر الاجتماعية السائدة والقوانين القسرية..الحياة كانت عنده تتجدد حركتها بالممارسة اليومية للفن وطقوسه وهي حياة خليط من صعلكة ويأس ولذة ومتعة وقلق وانسجام عال مع النفس.. استقبل عزيز حياة بغداد في منتصف الستينيات متسلحا بعاملين لعبا دورا مهما وهائلا في بنائه الإبداعي والحياتي أولهما أستاذه حقي الشبلي وثانيهما ابن مدينته المفكر عزيز السيد جاسم وليس هناك أي تناقض بين المرجعيتين بل إن هناك توافقا وربما تطابقا بينهما فكلاهما من الباحثين المعنيين بشخصية العراق.. المعلم المسرحي الرائد الذي يحمل داخله كل خصال أهل بغداد وطيبتهم مضافا إليها بناؤه الفكري وحسه الفني.. والكاتب السياسي الذي صفى في كتاباته روح الوطن وكان منذ أول حرف كتبه شديد الاقتراب من مزاج الناس وتكوينهم. وكان عزيز عبد الصاحب يدرك أن همه الحقيقي هو الالتصاق بشخصية الفرد العراقي وان يؤسس هو وجيله مسرحا ملتزما بقضايا الناس وهمومهم.لذلك كان يؤمن بأن على الممثل وفنان المسرح أن يتسلح بالثقافة والصدق في آن واحد، فالموهبة وحدها لا تصنع فناناً ويكتب في دفتر مذكراته الصغير:"على الممثل حين يأتي إلى المسرح أن يكون صافي الذهن تماما مستبشرا باستقبال عرسه. فالليلة ليلته وعليه أن يسلح نفسه بالقراءة فهي زاده في هذا الطريق وعليه أن يختلي مع دوره خلوة المتصوفين المنصرفين بالتوجه إلى الله. ستقولون هذه من البديهيات أليس الصدق بديهية. وكلنا يعرف ضرورته ولكنني أتساءل هل نستطيع أن نحافظ على ديمومة صدق الأداء من على المسرح أو في الحياة بشكل عام". ***عالم عزيز عبد الصاحب سواء في مسرحياته أو مقالاته أو يومياته إنما هو بناء أدبي فني شديد الدقة ومغرق في الخيال أيضا. لا تعارض بين دقة الواقع وفوضى الحلم. وفي مسرحياته دعوة كي نعود إلى الأصل والجذور وهي ليست دعوة إلى التقهقر إلى الماضي ولكن التقدم نحو الحاضر، نحو هنا والآن بهذا الزمان والمكان عبر جذور الام واللذة..وكنت كلما أقرأ عملا مسرحيا لعزيز او قصيدة جديدة تدهشني حالة التوهج والجرأة المطلة بين السطور والسبب ليس فقط انه يمس بكتاباته تناقضات الحياة الصارخة ولكن لأنه كاتب يعيش ما يكتب ويكتب ما يعيش. إن حياته هي أجمل وأروع وأبدع مؤلف كتبه. التحام الفن بالحياة العامة هو ما أعطى مسرحيات عزيز نكهتها الفريدة المفعمة بجرأة العقل والقلب دونما انفصال وهو الكاتب المتورط في ما يكتبه تورطا حياتيا عضويا لذلك هو يتحمس ويدافع عن مسرحياته وآرائه النقدية وهو بذلك لا يسعى لحماية نصوصه أو أفكاره إنما يدافع عن كل حياته بوحدة غير قابلة للتجزئة..فالأفكار بمسرحيات عزيز حيوات تعاش. الفكرة كائن حي صعب المراس لا تمنح أسرارها الثرية إلا عبر عناق دائم متجدد وهو الكاتب والإنسان والممثل الذي رفض القهر على المستوى الشخصي والعام وكانت حياته صراعاً لا يهدأ لفك سلاسل القيود بجميع أشكالها وقد كان يؤمن بان حرية الإنسان لا تزدهر إلا بازدهار حريات الآخرين..وليس غريبا أن نجد أن أشهر مسرحياته تحمل عناوين لرجال عشقوا الناس والحياة (ابن ماجد، بشر الحافي، السهروردي) وهو في هذه المسرحيات لم يكن يسعى إلى استنساخ إبداعي وفني لشخوص من الماضي أو لفلاسفة الصوفية ربما لأن فكرة الحقيقة الأزلية كاملة في أعماق النفس وان كل هم المتصوف أن يتأمل ذاته كي ينقذ الحقيقة الكبرى عوضا عن فكرة صوفية أخرى تقوم على السمو مرتبة مرتبة حتى الوصول إلى العشق لله، بعبارة أخرى فان عزيز بين نهجين متقابلين في فلسفة صوفية منحازة لفكرة أساسية قوامها الاعتراف بالنفس كونها طريقة للحقيقة الكبرى .***في "مسرحيات صوفية" وهو الكتاب الذي صدر أخيرا ويضم ثلاث مسرحيات هي "ابن ماجد، بشر الحافي، السهروردي" نجد أن التراث العربي هو المادة الخام الأساسية التي بنى عليها هذه المسرحيات والتي أراد من خلالها عزيز عبد الصاحب أن يطرح السؤال الذي ظل يشغل باله طويلا ، هل يستطيع المسرح أن يغير ما في نفوس الناس؟ أليس المسرح هو الأكثر قدرة على
عزيز عبد الصاحب.. المسرح حين يتحوّل إلى طقس صوفي
نشر في: 1 يوليو, 2012: 07:28 م