ناظم محمد العبيدييمكن للمرء أن يقرأ كتاباً عن الحداثة وما بعدها على ضوء شحيح ينبعث من فانوس، ليس هذا من باب الطرافة، لأن التقنية لا تقف حائلاً دون الوصول إلى آخر مؤلفات الفكر والأدب، هذا ما تعلمناه في العراق، لذلك فنحن نعرف ما يجري من متغيرات ثقافية كلّ بحسب قدراته وثقافته،،
وبوسع الشاعر عندنا والرسام والقاص أن يمضي في محاكاته وابتكاراته إذا أسعفته الموهبة والدراية، لأن العالم أصبح واحداً بسبب وسائل الاتصال التي اختزلت الكثير من المسافات، أقول الكثير ولا أقول جميع المسافات، لأن هاهنا إشكاليات تتعلق بالسياسة والاقتصاد والتاريخ أيضاً،إلا أن طبيعة الموضوعة التي نحن بصددها تقتضي شيئاً من الإيضاح، فليس من المناسب القفز على بعض الحقائق الموضوعية، ولطالما رأيتني أقف متسائلاً أمام المشكلة التي أراها ماثلة حين أقرأ أية دراسة عربية تتحدث عن أوضاع ثقافية أو اجتماعية أو سياسية كونها تتجاهل الفجوة الحضارية التي نعيشها، والمقصود بـ(هنا) عالمنا العربي والعراقي بشكل خاص، لأن ما جرى ويجري في العراق وبعيداً عن الإسقاطات السياسية التي تحاول تلوين الصورة الموجودة تبعاً للأيديولوجيا المتبناة أو المصالح قد أصاب العراق بالإضافة إلى ما يشترك به مع بقية الدول المجاورة من إشكاليات بمعوقات حقيقية وتشوهات شملت مختلف جوانب الحياة، وهذه المقدمة ضرورية لفهم تأثيرات الحداثة وما بعدها، لأن هذين المصطلحين يتضمنان بالضرورة حالة من الحراك الحضاري والتطور الذي يبدو مركزه الحقيقي في دائرة الغرب، وفي الدول الصناعية الكبرى تحديداً، فهناك يقع الثقل الثقافي والسياسي والاقتصادي وذراعهما المتمثل بالقوة العسكرية القادرة على كتابة التاريخ داخل خارطة العالم، والحديث عن مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة لابد أن يثير جملة قضايا عندنا، ويشير إلى مفارقات واضحة أولها، هل شهدنا الحداثة حقاً لكي نتحدث عما بعد الحداثة؟ الجواب كلا طبعاً إذا كان حديثنا عن جوهر الحداثة وما بعدها وفي المجالات المختلفة للحياة، إلا أن هناك نواحي إنسانية وإبداعية – كما أشرت في البدء - تعكس شيئاً من التواصل مع ما يجري في الخارج، أي أن سمة الاتصال مع العالم المعاصر الذي شهد الحداثة وما تلاها استطاع أن يترك أثراً لا يمكن تجاهله، وهذا لا يعني طبعا أن المبدع في مثل هذه المجالات يفعل ذلك داخل مناخ ملائم، بل على العكس إن ما يجري هو القفز على معطيات الواقع والتطلع إلى نقطة تضيء بعيداً، حيث مركز الأحداث العالمية، وما اصطلح على تسميته في كتب السياسة والثقافة بالمركز، فقد ظهرت كتابات تحمل خصائص الحداثة وما بعدها، وفي الفن التشكيلي توجد محاولات في هذا المجال، إلا أن هذا لا ينفي أن ما يحدث هو عملية لحاق وتدارك بجهود فردية، تصنعها ثقافة الفنان وقدراته المعرفية، أما الصورة العامة والمستوى السائد فهو السكون عند نقطة ما، حالة من الذهول والحيرة، لأن ما بعد الحداثة مصطلح يشير إلى جملة معطيات ومتغيرات لم يتسن حتى للفكر الغربي أن يدرجها بشكل دقيق وشامل، وظلت المحاولات توصيفية تقترب من حقيقتها التي تستعصي على الحصر والتحديد، فإذا كانت الحداثة قد توضحت ملامحها طيلة زمن طويل نسبياً، فضلاً عن نتاجاتها التي يدين لها العالم بكل ما يتمتع به من تقنيات وتطور علمي، فإن ما بعدها لم يصطنع الكثير مما يشار إليه، بل إن ثمة ردود لا يستهان بها على مفكري ما بعد الحداثة، وتبدو قوة ما بعد الحداثة كثقافة ونمط فني في أنها تعود إلى الماضي بروح ساخرة،في حين كانت الحداثة تتمنى دون طائل أن تلغي الماضي كما يقول (إمبرتو إيكو)، ويضيف أن ما بعد الحداثة هي في جوهرها تكنيك ونبرة، ووفقاً لهذا التصور يمكننا أن نشير إلى الكثير من الأعمال الأدبية التي كتبت في هذه المرحلة، ونعني بها تلك التي حفلت بروح التهكم وطريقة التعامل مع الماضي والطرائق القديمة في الكتابة، ولا يسعنا ونحن نتحدث عما بعد الحداثة أن نتجاهل تلك الحساسية التي لم تعد تستقبل الكثير من الكتابات بذات الروح التي كانت سائدة، لأن هذا يشير كما يقول (إمبرتو إيكو) إلى تغير في النبرة بل والمزاج المفعم بالسأم، وكأن أدب وفن ما بعد الحداثة يبحثان عن منطقة أخرى خارج الأفق المتاح، تحركهما روح التهكم والضيق بكل ما كان سائداً ومستهلكاً، فإذا كان أنصار الحداثة يحاججون الحداثيين الجدد بما أنجزته حقبة الحداثة فإن المنظرين لما بعد الحداثة يشيرون إلى ما أغفلته الحداثة من جوانب أخرى ظلت بعيدة عن الأدب والفن، ويرون أن إثارة السخط بالطرائق الجريئة أفضل من التوقف عند لحظة ومحطة زمنية لم تعد تلائم ذائقة المتلقي المعاصر، وفي أدبنا العراقي مازال الوقت مفتوحاً لتجارب قادمة، لأن ما يجري في الخارج من متغيرات ينتمي إلى بيئات معينة، ويحتاج إلى زمن أحياناً لكي يحدث تأثيره في النصوص الإبداعية، ولذلك مبررات لا يمكن تجاهلها، فمن طبيعة النصوص أنها تتصارع في لعبة تنافس وتجاوز ولا تصنع من العدم، وبرغم الانفتاح والتواصل الذي يحدث،إلا أن هناك مناخاً حضارياً وثقافياً يخيم بلا شك على كل نشاط شئنا أم أبينا، بيد أن ذلك لا يمنع من أن تجري قفزات متمردة تجترح لذاتها خطاً مغايراً يستمد من هواء الخارج
هل المأزق العراقي ثقافـي؟
نشر في: 1 يوليو, 2012: 08:17 م