سرمد الطائي قبل 7 أعوام كتبت عن السليمانية مقالا نشر في المدى عنوانه "5 وجوه ضائعة للعراق". كنا حينها قادمين من معارك لا تتوقف في بغداد، ودخلنا عالما جعلنا نتذكر عراق السبعينات او بقايا حكايات الاهل عن عراق اقدم منه. عن عراق كان نظيفا اكثر ووادعا ومتعايشا بنحو افضل، وهي صورة ظلت بمثابة حلم او ذكرى جميلة نحلم ان تعود. لكن اجزاء اساسية من الذاكرة العراقية الحلوة المتبخرة بين بغداد والبصرة، كانت موجودة في السليمانية، وها هي تتعزز اليوم بكل الانفتاح الذي تعيشه المدينة.
يقول الاصدقاء الذين يرافقونني هذه الرحلة ان العنصر الاساسي المختلف والذي يلمسه المرء في السليمانية، هو قدر كبير من طيبة وهدوء الاماكن البعيدة والارياف الجميلة، مقرونة بلياقات المدينة وتعقيداتها. النساء والرجال هنا لديهم ما يكفي من الوقت والمزاج كي يعرضوا امامك ألوان الاريحية والطيبة والترحيب الدافئ، اكثر بكثير مما لدينا في المسافة الفاصلة بين بغداد والبصرة. ولدى الجميع ايضا ما يكفي من الظروف المساعدة التي تجعل الناس اكثر التصاقا بالمدينة المتطورة الحديثة وانظمتها المعقدة التي تسيطر على كل شيء من علامات المرور حتى المصارف والشركات.انه شيء حرمتنا منه الحروب كما يبدو. لم يعد مزاج الانسان العربي في العراق يتسع لكل هذا الهدوء والرقة التي تعيشها هنا، والتي تسمح لسائق التاكسي الكردي احيانا ان يهديك وردة قطفها قبل ساعة من سفح الجبل.. مشهد لا يتاح حين نستأجر "السايبا" وسط زحام وزعيق الباب الشرقي.يمكنك ان ترى الكرد وهم يكتبون اسماء السائحين، على خشب الجوز المقطوع توا. تراهم يبيعون باقات الورد على الجبل، بينما يرقصون رجالا ونساء بود شديد.اشعر بالعار حين لا اجد لديهم تقريبا، اي كراهية. الغربيون يمشون في الاسواق بلا حماية، ولا احد يكن حقدا عليهم، ويدخلون بلا فيزا ولا تعقيدات. ولماذا التعقيدات؟ الشرقيون الفرس والأتراك يدخلون بسياراتهم للسياحة والبزنس ولا يضايقهم احد، وهناك قوافل ايرانية تتجول في المدينة بحثا عن سلع ارخص حرمهم منها مشروعهم النووي وعقوبات الامم المتحدة. سائح ايراني ساعدناه في الترجمة، راح يسأل: هل يوجد ديسكو في السليمانية، نريد ان نرقص! اما نحن العرب فنتلقى اقصى ما نطمح اليه من احترام، وسط اكبر ازمة سياسية بين مكونات البلاد وكل الشتائم المتبادلة بين كردستان وحكومة السيد نوري المالكي.ايضا فإن كل الربيع العربي هنا. في الفندق عمال ورجال اعمال من مصر يتناقشون حول مستقبل الرئيس مرسي. وفي المصيف كرد سوريون وعرب سوريون قلقون على مآل دمشق.القوميات العراقية تتنوع كثيرا وتختلف سياسيا لكنها تعيش هنا بسلام يستحق الاشادة. احد وجهاء "الشركس" الذين هاجروا الى العراق قبل 3 قرون، يتكلم 5 لغات مع الجميع. الدكتور احمد يحاور ابناء قوميته بلغته الاصلية، ويتحدث مع الكرد والغربيين بلغاتهم، ويحاورنا كأي عربي، بالعربية. يسرد لنا حكاية جميلة عن قوميته التي تقيم على خط الالتقاء بين مناطق العرب ومناطق الكرد، ويحكي لنا كيف دخل ابناء جلدته الاسلام قبل 300 سنة بشرط، وهو ان يبقى لهم حق سماع الموسيقى واحتساء قليل من الشراب.الاحاديث تنساب كل ليلة في حدائق غناء تزخر بها المدينة وضواحيها. الهواء عليل وهي تمطر قبل تموز بيومين. تأتي بعد يوم عمل ثقيل، وتمضي ساعتين في حدائق سرجنار، المصيف القابع على حاشية المدينة، وتشعر ان هدوء الناس ولياقات التعامل العالية لديهم، تخفف عنك كل اشكال التعب، وتتمنى لكل من تحب ان يمضي ايام الصيف في حديقة كهذه.في سلام السليمانية وهدوئها، اكثر من وجه ضائع للعراق الذي نحلم به. استرخاؤها وترحيبها بالشرق والغرب، والابراج التي ترتفع وسط ورش الاعمار العملاقة، دون ادعاء كبير او غرور او تحذلق، والتنظيم المتقن للسير، وحتى سلاسة المرور عبر نقاط التفتيش عند مداخل المدينة... هي كل ما احلم به للعراق هذه اللحظة.
عالم آخر :في السليمانية.. وجوه ضائعة للعراق
نشر في: 1 يوليو, 2012: 09:47 م