د.رضا الشوك ورد في قصة حي بن يقظان لمؤلفه ابن طفيل، أن الذكاء أو الوعي الإنساني يولد في الإنسان، وكان يشاطر هذا الرأي فلاسفة الإغريق الأوائل وكذلك فلاسفة المدرسة الميتافيزيقية الأوروبية، وقد تعرضت هذه الأفكار إلى الكثير من الانتقادات الشديدة في حينه وحتى بعد وفاته بفترة طويلة،
والآن يبدو أن الأبحاث العلمية الحديثة أخذت تؤكد صحة موقف ابن طفيل، إلا أن الدكتور علي الوردي، العالم الاجتماعي العراقي الشهير، قدم دراسة مستفيضة عن المجتمع العراقي حيث أوضح بأن أهم خصائص التطور والتمدن هي خاصية (الارتداء) أي الارتدائية في التطور الحضري، وكان معارضاً في ذلك المفهوم الذي جاء به ابن طفيل.ويؤكد الوردي في بحوثه عن المجتمعات لاسيما العراق قائلاً: (إن القبائل العربية بعد استقرارها باستيطانها السهول الرسوبية –وقد سماها بالقبائل الرسوبية تأتي بعدها موجة جديدة من القبائل البدوية من الجزيرة العربية مهاجرة بسبب القحط لتدخل العراق غازية، مما يؤدي إلى شيوع القيم البدوية بعد هيمنتها على القيم الحضرية وعودة المجتمع العراق إلى حالة سابقة، أي العودة إلى الوراء، وهذه العودة تشبه الكابوس الاجتماعي من نوع ما جاء به أرسطو طاليس، الذي رأى نظريته عن التاريخ، بأن التاريخ الإنساني هو (دوراني) بمعنى، ما أن بلغ الإنسان أعلى مرحلة من حضارته، حتى تحصل كارثة طبيعية أو حرب تؤدي إلى تدمير ما بناه الإنسان من حضارة وتعود به إلى الوراء).لقد كانت نظرية أرسطو طاليس حول التاريخ الإنساني مقبولة، وأنها صحيحة بسبب استمرار تدمير الحضارات الواحدة تلو الأخرى، إلا أننا أصبحنا نعتبرها غير صحيحة في الوقت الراهن لأن التاريخ الإنساني هو تراكمي وليس دورانياً، فالإنسان لا ينسى ما تعلمه لأن الحضارة الإنسانية الحالية هي تراكم لحضارات إنسانية سبقتها، أما ما ورد في أطروحة الوردي حول ارتدادية التحضر في العراق هي حالة خاصة وقد بناها على ملاحظاته الميدانية للتطور الاجتماعي في العراق وشيوع حالة الارتداد بسبب وقوع القرى العراقية على خط يفصل بين البداوة والتحضر، خط قلق يفصل بين الاستقرار والتجوال إلى درجة أن القرية العراقية وحتى يومنا هذا تعيش ازدواجية اجتماعية تتمثل في تواجد قيم البداوة جنباً إلى جنب مع حالة الاستيطان.إن تواجد قيم البداوة جنباً إلى جنب مع حالة الاستيطان، سببه أن العرب بعد استيطانهم وتمدنهم تجدهم ينظرون نظرة إكبار إلى البداوة على أنها حالة نقية وحالة من الشهامة والعزة والمروءة والشجاعة والكرم، والى ما هذه التلفيقات الرومانسية التي لا أساس لمعظمها من الصحة، ومن الجدير بالذكر إن نظام الحكم الذي كان في العراق اعتمد على مثل تلك التلفيقات الرومانسية، وقبل الوردي بعد قرون، أخذ الفيلسوف ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع بالحسبان الظروف البيئية والمناخية والاجتماعية لما لها من تأثير على تطور المجتمع والتاريخ، وقد ورد ذلك في كتابه تاريخ العرب المجلد الأول الذي يحوي مقدمته الشهيرة (بأن البداوة هي العدوّة اللدودة للحضارة) أي للتحضر وللتمدن، وقال موضحاً إن حضارة تونس تبلغ مستوى عالياً حتى تأتي موجة بدوية أخرى فتقوم بتدمير ما بنته عدة أجيال من التونسيين.إن شبه الجزيرة العربية ليست المنطقة الوحيدة من بين مناطق العالم التي قاوم فيها البدو معالم التحضر وإنما حصل نفس الشيء في أوروبا حيث قامت قبائل الفايكنك والنورمان واللومبارد منذ العصور الوسطى بمواصلة تدمير معالم الحضارة الأوروبية التي ظهرت في المدن الأوروبية في إيطاليا وسواحل البحر الأبيض المتوسط، وكذلك في بريطانيا، وقد عاش معظم الأجزاء المتمدنة في قارة آسيا ومن ضمنها العراق فظاعة وإجرام القبائل الغازية المغولية التي كانت هي الأخرى بدوية.إن عداوة البداوة الشديدة للتحضر وردت في مقدمة ابن خلدون كفكرة توصل إليها هذا العالم الاجتماعي خلال دراساته لمجتمعات البلدان التي زارها ومن بينها العراق، وقد تأثرت هذه الفرضية عبر التاريخ الإنساني في مختلف بقاع الأرض، والأمر ذاته بشأن ظاهرة (الارتدادية) في التطور الاجتماعي والحضري العراقي الذي ساد معظم سني القرن العشرين وأن ذلك الانعكاس سببه الازدواجية الاجتماعية التي تعيشها القرية العراقية من حيث تواجد قيم البداوة جنباً إلى جنب مع حالة الاستيطان وسببه الأهم ايضاً هو، أن سياسيّي العراق وحكامه لاسيما خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد انحدر معظمهم من مثل تلك القرى التي تعيش ازدواجية اجتماعية من قيم البداوة مجانبة حالة الاستيطان، وأن نظام صدام حسين هو أفضل من يمثل قيم تلك القرى، والتصحر السياسي يعني تجريد الوضع السياسي الذي يعيشه المجتمع من كل سمة من السمات العصرية المتحضرة التي تسود حياة المجتمعات المتقدمة حضارياً والتركيز بدلاً من ذلك على قيم البداوة المتوارثة عن أجيال سابقة، إما لأسباب فكرية كما كان حال حركة طالبان في أفغانستان أو ارتداداً لتلك القيم البدوية المتوارثة بسبب ملاءمتها لإقامة نظام طغيان كما كان في العراق قبل سقوطه، وللتصحر السياسي خواص مستقاة من حياة وقيم وثقافة البداوة، من أهمها:1- اضطهاد وقهر المحكومين، أي بنفس الأسلوب الذي تعاملت به قبيلة أو قبائل غازية.2- ضعف ال
التصحّر السياسي
نشر في: 2 يوليو, 2012: 06:52 م