شاكر لعيبيهذا العنوان يمكن أن يكون لقصيدة أو لفيلم مغامرات، لكنه لم يطلع إلا من مناسبة نثرية وواقعة وثائقية، فإن هؤلاء الذين يودّون حجب صحيفة "المدى" عن قراء النيت عبر عمليات القرصنة المستمرة والهاكر الإلكتروني التي نشهدها منذ بعض الوقت، لا يسعون إلى تحجيم وإسكات صوت السياسي وحده، إنما يسعون أيضاً إلى تدجين الثقافة العراقية التنويرية وحجبها عن العالم. تستهدف العملية إذنْ الثقافة الوطنية الديمقراطية العريقة في العراق، ويجد جميع كتّاب المدى أنفسهم، في العراق وخارجه، منزعجين من حجبهم، كما أحسب.
أولاً: أفترض أن عملية القرصنة هذه قادمة من داخل البلد نفسه، ولعلها من عاصمته. وفي ذلك دلالة سلبية على الاستخدام الممكن لأجهزة الدولة الإعلامية والإلكترونية لأغراض لا تخدم الصالح العام وإنما لأغراض ضيقة وأمر في نفس يعقوب.ثانياً: لا يليق ببلد اتفقت أطرافه، نظرياً، على التعددية وضمان الحريات الفردية والجماعية وإعلان الرأي المخالِف أن يمنع منبراً ثقافياً عبر طريق غير قانوني، وفي الخفاء.ثالثاً: تعبِّر عملية مثلها عن نكوص سياسي يعيدنا إلى شيء من نظريات "العمليات السرية" التي تستهدف الخصوم السياسيين والأيديولوجيين. هنا لم يخرج منفذو القرصنة قيد أنملة عن عقلية النظام العربي الشمولي، واستطراداً العراقي السابق، في "إلغاء" الخصوم بكل الوسائل المتاحة. بمعنى آخر فإننا أمام العقلية نفسها رغم تغيُّر الظروف ورغم جميع الإدعاءات بقبول الآخر والمختلِف.رابعاً: لا تبرهن هذه القرصنة ما قاله البعض منذ بعض الوقت من أنه قد هزم الثقافات العلمانية والماركسية والليبرالية. لو كان الحال كما قيل لما شهدنا محاولات الحجب القسريّ المحمومة المكرّرة.خامساً: إن المعاداة الصريحة للثقافة الوطنية، غير المنغلقة على أيديولوجية ثابتة، تعبّر الصحيفة عن شطر حيوي منها في عراق اليوم، هو ما تسعى إليه عمليات الإسكات الإلكتروني الراهنة. لكن الثقافة الوطنية ضاربة الجذور بسبب طبيعة التكوين الجيو - سياسي والإثني والتاريخي للعراق القديم والحديث.سادساً: مسعى المنع الإلكتروني يطال في الحقيقة مسألة الحرية عموماً، وحرية التعبير بشكل خاص. فالحريات لا تتجزأ، وما هو مسموح لك به قانونياً مسموح للجميع به، دون تفضيل لأحد على آخر، في السلطة وخارجها.سابعاً: لو صحّتْ فرضية أن جهات تستخدم أجهزة الدولة، بعلمها أو دون علمها، تقف وراء عملية الحجب الرقميّ فإننا أمام ما يسمى قانونياً "سوء استخدام السلطة Abus de pouvoir" أو التعسف باستخدامها (وبالإنكليزية Abuse of Power) التي يعاقب عليها القانون نفسه.ثامناً: أصوات المثقفين العراقيين والعرب الذين يكتبون في المدى غير مرحَّب بها، دون شك، بالنسبة للقراصنة. إذ بعدما تعرّض بعضهم للمنع في البلد طيلة الثلاثين عاماً الماضية، ها هو المنع مداوَرَةً، بلباس مهذب وخنق هادئ بقفازات حريرية.تاسعاً: تدل العملية على ضيق أفق بالمعاني كلها، سياسية وثقافية وإلكترونية، لتعبر بالتالي عن مزاج متعكر، عاميّ، عن "فشة خلق"، لا تدرك إمكانات عالم الاتصالات الحالي الذي لا يمكن لأحد تقريباً أن يقوم فيه بحجب المعارف والمعلومات والمعطيات العلمية والنصوص الأدبية.عاشراً: تستدعي مواجهة عمليات القرصنة على الصحافة الوطنية تثبيت مواد جديدة في القانون العراقي، تحدّد وتمنع وتعاقب على سوء التصرف بالعالم الإلكتروني، وتحمي حرية الصحافة من عمليات القرصنة بجميع أشكالها وتتابع مرتكبيها أمام المحاكم.هذه الكلمة تنوي الذهاب أبعد من المناسبة الراهنة وتسعى إلى طرح السجال والتفكير مجدّداً بحدود حرية التعبير في نطاق "العالم الرقميّ" الجديد على بعض ساسة العراق الجدد، وبعض المشتغلين فيه بالثقافة والفكر.
تلويحة المدى: قراصنة المدى
نشر في: 3 يوليو, 2012: 07:29 م