ترجمة : عباس المفرجييمكن للموقع أن يبدو أكثر شبهاً بمحجر صحي . يقود المدخل ، عبْر عدّة أسوار خشبية معلّقة وسلسلة من الأبواب الأوتوماتيكية، الى قاعة كبيرة مقنطرة ، شبه خصوصية ، يرقد على يمينها المريض ، فيما يهدل حشد من الناس بجانب سرير مرضه .
كنت بين الحين والآخر انّضم إلى الحشد، أمام لوحة ليوناردو دافنشي ’العشاء الرباني الأخير‘ ، في حجرة الطعام السابقة المبيّضة بالكلس لكنيسة سانتا ماريا ديللا غرازيي، نتفحصها وهي على تكيَّة مجلدة، لكنها باهتة نسبيا، نتوقع أن نقضي الخمس عشرة دقيقة المسموح بها للسّياح. يسوع ينقل رسالته للخائن، كما الأمر دائما، وتلويح مباغت باليد يفرّق الحواريين على قماشة الطاولة العريضة مثل قطع البولنغ الخشبية. كان صباحا ماطرا، باردا عندما وقفت آخر مرّة لمشاهدة الصورة، التي لم يحجب رغبها وهشاشتها بريق المرجان، الأزرق والوردي. فبدأت أحلم بأمواج الشاطئ الكاريبي. كتبت بعجلة ملاحظات حول الاقتصاد في الشكل والمنظر الطبيعي البعيد في اللوحة، لكنها ما لبثت أن انسابت بعيدا عن التركيز، هناك في الأعلى على الجدار، في وهج بقع الضوء، مع دمدمة الناس حولي وصوت تكتكات الساعة.لماذا تكون أعمال الفن العظيمة، أو لنقل الشهيرة، أكثر عسرا على التركيز؟ هل هي مسألة رؤيتها المرّة تلو المرّة، فنظن أننا نعرفها مسبقا في ذهننا؟ أصدقاء لي، مؤرخو فن، ينوحون قائلين إنهم لم يعد بإمكانهم تحمّل ’العشاء الأخير‘ ، لأن من المحزن جدا رؤيتها بحالتها الراهنة، وهم يكرهون أن يُدفعوا بالقوة من القاعة بعد ربع ساعة. ذكّروني بنكتة بورشت بلت حول الشخص الذي يتشكّى من مطعم يقدم طعاما رديئا في أطباق صغيرة جدا.لكني أراهن بان أكثر الناس ممتنون لهذا الوقت المحدد. كم مرّة، هذه الأيام ، يتاح لنا التوقف وقتا أطول أمام أي عمل من أعمال الفن؟ لاحظت أن زوّار سانتا ماريا ديللا غرازيي يميلون الى التحديق مرّات قليلة الى لوحة ليوناردو ، بين الوقت الذي يلقون فيه نظرة على بطاقة التعريف المعلقة على السياج أسفل اللوحة، ثم ، بعد بضع دقائق، يسيرون متمهلين نحو لوحة الفريسكو في القاعة الأخرى، قرب المخرج، مختلسين نظرة على ساعاتهم، كأنما يعدّون الدقائق الباقية على اللحظة المناسبة للانسحاب من المكان.ربما زمن ليوناردو ولّى. ربما هذا هو جزء من القضية. فهو ينتمي إلى عصر آخر، أنغمس في تكلّف عتيق الطراز ومواضيع شابتها النقائص. ومثل أقراص الليزر ويوغسلافيا والعليل تسارافيتش الكسي، جاءت لوحة ’العشاء الأخير‘ الى عالم منحوس. لم تمض عشرون عاما على الانتهاء من ترميمها، في 1948، حتى بدأت تتقشر.جورجو فاساري، الفنان وكاتب سيرة ليوناردو، أكّد أنها خراب قبل عقود قليلة مضت. الترميم الهزيل وقرون من التلوّث والحروب، تركا اللوحة في الحالة التي رأيتها فيها أول مرّة، في إضاءة خافتة، حين كنت مراهقا من مريدي الفن في نهاية السبعينات، قبل وقت قصير من خضوعها في الجولة الأخيرة لعملية جراحية لإعادة بنائها.
خمس عشرة دقيقة طويلة مع "العشاء الربّاني الأخير"
نشر في: 3 يوليو, 2012: 07:31 م