زهير الجبوريفي واحدة من أهم مميزات القصيدة الحديثة انها لا تقف على تمركزات الشكل ، او لا تنطوي على جدلية اللّعب اللغوي الذي يفتح ذهنية عالية في تحويل المدرك والمحسوس الى فضاءات اوسع، انها تأخذ مجازية العبارات على محك مباشر في الجملة الشعرية ..
واستطاع الشاعر المعاصر خلق نمطه الشعري عبر دلالات الواقع وايقاع الحياة فيه ، وقد صاغ جملته الشعرية بعلامات خطابية مؤثرة ، وهذا ما لمسناه في النصوص المنشورة وفي المجاميع الشعرية المطروحة راهنا، ولعلنا نقرأ ما كتبه الشاعر ( جليل حيدر ) في قصيدته الاخيرة ( ظهيرة جمعة في برج السعدون ) المنشورة في ثقافية المدى ( 28/1/2012 ) في العدد ( 2377) وهي تكشف قراءة الواقع بطريقة شعرية محدثة ومشحونة بالكثير من المتناقضات والمفارقات السسيولوجية والفكرية وحتى النفسية .. القصيدة انطوت على قراءة الواقع عبر نص شعري انفتح على الحس التواتري بقصدية تأجيج الحدث العياني من لدنه ـ أي الشاعر ـ وانشداد المتلقي واقناعه بأن للشعر وظيفة كشف الواقع بالطريقة الشعرية ذاتها.. ولا ضير من جعل النص الشعري بؤرة حدث لقراءة حالة يرتأيها الشاعر أو حادث يقع في مكان وزمان معينين .. غير أن ما نقرأه ونشاهده ونعيشه يثير عندنا تساؤلات كبيرة حول ما يطرح من أزمات لا حلّ لها في الوقت الحالي .. في (ظهيرة جمعة)، يفتح الشاعر تجليات واسعة في قصيدته للكشف عن مكونات البنى المعاشة لـ( المكان.. الزمان.. الحدث.. المشهد) ، ربما لأن مفهوم الانسجام مع الواقع هو ما أثار الشاعر في بناء نصه وفق انفعالات وتواترات هائجة ، تواترات صيغت بطريقة انفعالية (غنائية)، هي اقرب إلى كونها تحمل مسحة غنائية ذات استحداثات مونولوجية داخلة وخارجة في آن واحد في عمق الشاعر (ذاته)، فـ(جليل حيدر) فتح منافذ لذهنية القصيدة المعاصرة بقناعة كشف ملامح القراءة الثقافية للواقع، بمعنى قراءة الواقع النصي بأنساقه العيانية المضمرة، لنقرأ في مستهل القصيدة : هكذا هي بغداد: جملة عصبية وعبور غبي من بداية حزّ الرؤوس إلى الصلوات هكذا هي بغداد : شارع يطوى على كثب وانفجار ومحابر، شارع تغلقه ملائكة خضر سود ، خشية جحيم محلي ، ولحى خلف الحدود هكذا هي بغداد : سجال بين هاوية ومنائر وانطلاقاً على ما تقدم من استهلال فيه وضوح تعبيري في مطلع القصيدة، فإن الوضوح هذا يقف على الفعل الاستفهامي القصدي في العبارة (هكذا هي بغداد) التي تكررت مرات عديدة ، لتتناظر مع سياق المعنى الشعري الذي يبحث عن تمركزات الشعور الاحساسي بالألم اليومي، حيث نلمس تحولات دلالية فاعلة في مضمون القصيدة، و( بغداد) أصبحت بؤرة انطلاق مكاني للكشف عن قراءة سسيولوجية وسسيونصية/ مقدسة، حيث (جملة عصبية.. حزّ الرؤوس إلى الصلوات.. انفجار محابر.. هاوية)، كلّها أخذت فعلها الخطابي الواضح لما نعيشه من فعل وحراك يومي مضطرب، والشاعر أخذ على عاتق النص الشعري عبر توظيفات لغوية/ مهارية فاعلة..ومع التحول المضموني في القصيدة عندما يقول: هذه بغداد: عودة إلى الظلام، وتبشير بصباح مقيد اليدين..لا يكتفي الشاعر بإعادة مشهدية الانفعال بأسلوب يحمل السمة التعبيرية، إنما قام بفتح جملته بطريقة متماهية مع فعل الإشارة (هذه بغداد) إلى الواقع الظلامي المشحون بسلطة الظلام الأيديولوجي المقدس..تستدعينا القصيدة إلى مستويات متمحورة حول جدلية الذات الهاربة وجدلية الموضوعة المقصودة.. ولأن الشدّ الشعري المتواتر حاضر في القصيدة هذه، فإنها إما أن تقوم على انسجام متداخل بين (ذات الشاعر ونصه) ، وإما أن يكون (تنافرا أو تضادا) ، وكلتا الحالتين تخلقان قراءة توترية لدى الشاعر في مضمون نصه..في العبارات الآتية نمسك (ذاتوية) الشاعر وهي منسرحة عبر تساؤلات مشرعة على ارض الواقع (كيف أتأكد من أصدقائي ، أتأكد من الماضي .. كيف أتأكد من أبي نؤاس .. آمل أن يهمس لي)، هذه العبارات تبلور شحنات التوتر عبر علائق اللّغة الشعرية، لكنها تمسك بأوجاع الحاضر المليء بالفجوات القلقة، ولم يكن للشاعر الاّ أن يمارس سلطته الشعرية عبر القصيدة، لكن كيف له أن يستدعي (تلك الديناصورات التي ابتلعت العاصمة) وأعطتها الظلام الدامس ليسمعهم صوت شعب بأكمله، شعب يمني النفس ببارقة ضوء قادمة.. في حين نلمس الموضوعة التي اشتغل عليها الشاعر وهي تكشف عن زمان انبثاق كتابة القصيدة (وهذا ما قرأناه في نهايتها، ومعنون/ بغداد 18ـ 1ـ 2012) وخلق حينها المشهد الشعري، فبغداد في كل مقطع بناه الشاعر، تمثل المرحلة المدونة هذه، نقرأ: هكذا بغداد : عمياء مثل مومس السياب غريبة كمطلقة، وفريسة للسمندر نجد في المقطع هذا تركيز الشاعر على بناء صورة شعرية لها دلالاتها البنائية المجازية للواقع، فهو يكرس جهده لإقامة صلة عميقة بعالمه المحيط به ومحاولة تفجير المسكوت عنه من خلال استخدام خيط التناص لـ(مومس السياب) الذي يؤكد العماء المنحرف والمتخبط بظلام الانهيار ، أو حتى عبارة (غريبة مطلقة) وهي تتناظر مع عبارة (فريسة للسمندر)، تبين حقيقة تشكيل علاقات حضورية تعتمد البناء النصي عبر رؤية عيانية، بل نشعر ايضاً أن الشاعر كتب قصيدته بوصفها نصاً معارضاً للآخر المعني، حيث كشف قناع الواقع المزيف بالتراسيم
الواقع وبنية التوتر في (ظهيرة جمعة)
نشر في: 3 يوليو, 2012: 08:03 م