نجم والي1-2بدأ يوم السبت بداية حسنة، طقس جميل يكشف وجه المدينة "الحضاري" الدمث، بضوء باهر وأزواج وعائلات تتجول في المدينة، وجوهها تضحك، تحمل حقائب كبيرة من البلاستيك، وكلما ظهرت الشمس
قوية في الشمال، ازدادت رغبة الناس هنا في التسوق: "السوق والشمس" عنوان مقترح لأطروحة دكتوراه "ما بعد حداثية" لكن قبل كل شيء دكتوراه أصلية "غير مسروقة من سوق مريدي!" (على طريقة شهادات الدأ في العراق، على أية حال هذا موضوع عارض. فعادة أعبر عن احتجاجي البسيط بمقاطعة التسوق والتجول عبر وسط المدينة في مثل هذه الأيام المشمسة واكتفي بالذهاب إلى النهر القريب، أتمشى عند ضفافه أو أجلس عند إحدى حاناتي المفضلة، هناك أجلس طويلاً أراقب القوارب الصغيرة التي تمر من أمامي، لكنني في هذا السبت المشمس وجدت قدماي تقوداني إلى مركز المدينة مثل كل سنة، في يوم السادس عشر من حزيران/يونيو، حيث حانة "يقظة فينيجيان" واحدة من سلسلة حانات إيرليندية تحمل الاسم ذاته في معظم مدن أوروبا الكبيرة - حيث واظبت على الاحتفاء بيوم السادس عشر من حزيران العام 1904، يوم جيمس جويس ورواية يوليسيس، في معظم مدن أوروبا، إذا صادف وكنت هناك في ذلك اليوم، عادة استحوذت عليّ منذ أيام إقامتي في نهاية سنوات الثمانيات في العاصمة الاسبانية مدريد، حيث كانت عندي صديقة تهيم بجويس والسبب تقول لفحشه (رغم أنه ليس هناك دليل في كل الصور التي رأيته فيها على ذلك)!... لكن ولقول الحق فإن حانة برلين تملك عبق سنوات 1904، عبق لا تشاركه فيه إلا بعض من الحانات الإيرلندية الأخرى، حتى لو امتلأت كما هي الحال اليوم بعشاق الكرة، حيث تجمع جمع كبير من الإيرلنديين المقيمين في العاصمة الألمانية ليتابعوا على شاشة التلفزيون المباراة المنقولة مباشرة في مسابقات كأس أوروبا، كيف لا وفريقهم شارك في بطولة الأمم الأوروبية في هذه الدورة؟لكن بعيداً عن الكرة، فإن يوم السادس عشر من حزيران/ يونيو 1904 هو يوم يوليسيس، يوم ليوبولد بلوم/ حيث بدأ اللف والدوران عبر أزقة دبلن منذ الساعة الثامنة صباحاً وحتى الساعة الثالثة ظهراً من اليوم نفسه، مثلما هو أيضاً يوم ستيفان ديداليوس والمرأة الممتلئة الخليعة، مولي، الذين يبدو أنهم يعيدون حياتهم في هذا اليوم بقوة أكثر حتى الآن من تلك التي امتلكوها دائماً، مثلهم مثل الخيالات التي تعود لتعرض نفسها كل سنة في تاريخ محدد، في مكان معين وفي تقويم ملزم، ومثلما هي الحال مع شكسبير، مع سرفانتيس، أو مع دانتي، من الممكن التعلم من جيمس جويس تقريباً كل دروس الحياة والأدب، لكن بين ذلك هناك درس واحد يهمني أكثر من أي درس آخر، ويجعلني أنتبه له في أزماننا اللعينة هذه أكثر من أي وقت آخر، أنه الدرس الذي لم يعره رفاق الكتابة الحقيقية بيننا الانتباه الكافي: ذلك أنه أمر باطل الإدعاء بأن نزوع الكاتب للكوزموزبوليتية يتعارض مع بقاء الكاتب أميناً لمكانه الأول - مدينته، لكي لا نقول بلاده - فليس البقاء في المكان - رغم الاضطهاد الذي يعيشه المرء - هو شرط الكتابة الوحيد. على العكس، من الأفضل أن يتنفس المرء هواءً آخر. "الإقامة الجبرية في المكان" ليست شرط الإبداع، وكذبة كبيرة تلك التي تريد تعليمنا أن هناك حالة قطع بين "البقاء أميناً للتقاليد" وبين نزعة الكاتب الكوزموزبوليتية: جيمس جويس، كوزموزبوليتي ويتحدث لغات شتى، منفي أبدي، مهاجر لمدينة ولادته وبلاده الضيّقة الأفق بشكل مبالغ والتي كانت تغلي تحت ظل القيم الإقليمية والقومية، كان عليه أن يخترع هواءه الخاص، أن يخترع كتباً تتنفس جواً جميلاً، و"طائشاً" - في عرف التقليديين - لكي تكون هذه الكتب كل شيء ولكل البشر.
منطقة محررة: على خطى جويس في يقظة فينجينيان
نشر في: 3 يوليو, 2012: 08:04 م