احمد المهناهناك على الأقل وجه شبه واحد يربط بين المعري وبين غاندي، عدا عن كونهما عظيمين. وذلك هو الزهد بالجنس. ومن الغريب ان يمتلك الرجلان هذه الصفة. فهي غير معهودة بالساسة ولا بالشعراء.والزهد بالجنس، أو ضبط النفس أو العفة، يسمى في الهند "براهماتشاريا". وهذه مرحلة أساسية لا يصل الانسان الى الحكمة من دونها في الثقافة الهندية التقليدية. وغاندي نفسه لم يصل اليها الا في نحو السادسة والثلاثين من عمره. وعلى العموم كان الرجل قد بلغ الزهد التام بملذات الحياة كافة وهو في الخامسة والأربعين.
الهند لا يتفرد الحكماء وحدهم بالعفة وانما كل "سانياسن". وهذا اسم كل فقير هندي ناسك منقطع عن الدنيا. وهذا الصنف من الناس هناك ليس قليلا. وقد احتار المفكرون فيما اذا كان مصدر قوة غاندي، وهي واحدة من أعظم القوى في عصره، هو انه "سانياسن" أم شيء آخر. ولكن المتفق عليه أن قهره لرغبته الجنسية عامل من عوامل قوته التي مكنته من فرض ارادته على مجرى التاريخ في عصره.وغاندي في الجنس، كما في غيره، كان أكبر من مجرد زعيم أو سياسي. ذلك ان فصيل الزعماء والساسة معروف غالبا بتكالبه تكالبا فوق العادة على الجنس. وهذه الظاهرة تكشف عن نفسها بين فترة وأخرى في الغرب. اما في بلداننا فان الصيت للشعراء والفعل للساسة. ولكن "الاستثناء العربي" مازال شغالا فيما يتعلق ببلاوي الساسة الجنسية. وهذا على اي حال حديث يطول ويبعدنا عن شريك غاندي في الـ "براهماتشاريا"، وهو المعري.أبو العلاء قهر الجنس أكثر من شريكه، لأنه ظل عفيفا من البداية الى النهاية. ولابد ان هذا هو أحد مصادر قوته. وهي قوة معنوية أرى أنها ستزداد وتتعزز كلما حقق العرب شيئا من التقدم والتنور. و"التنور" كلمة مفتاحية في عالم هذا الرجل العظيم. فقد لا ابالغ اذا ما قلت انك تجد في كل فكرة متنورة حديثة أصلا في أدب وفكر أبي العلاء.في مقالته الشهيرة "ما هو التنوير؟" يحدد ايمانويل كانط معنى التنوير بأنه عمل العقل الخالص من قيود الوصاية والاملاءات الخارجية. قبله قال المعري:" ايها الغر قد خصصت بعقل/ فاسأَلنْهُ فكلُ عقلٍ نبي". واذا عدت الى ما يعرف بـ" النسبية المطلقة"، وهي فكرة خطيرة لنيتشه تنفي وجود أي حقيقة وتقول ان كل شيء تأويل، فانك تجد أمثلة عديدة لها لدى صاحبنا مثل "ويعتري النفس إنكار ومعرفة/ وكل معنى له نفي وايجاب".في المعري اغراء عجيب. ونحن بأشد الحاجة الى ترجمة أعماله الى لغة عصرية نظرا لاسرافه فيما يسميه طه حسين "العمية اللغوية"، اي اغراقه في استخدام الكلمات الغريبة والغامضة والوعرة. وهناك محاولة "ترجمة" وحيدة لخليل الهنداوي أعاد بها كتابة "رسالة الغفران" بلغة عصرية.ان الجنس احد سجون الانسان. وقد عاش المعري بسجن آخر هو العمى. وهو أضاف اليهما سجنا ثالثا هو ملازمته البيت:أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيثلفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسم الخبيثفكيف انتصر المعري على جميع هذه السجون وأصبح أكثر رجال العرب تحررا في الماضي والحاضر؟
أحاديث شفوية:الجنس بين المعري وغاندي
نشر في: 3 يوليو, 2012: 09:19 م