علي حسين ما هي المسافة التي قطعها النظام الجديد في العراق وهو يدخل عامه العاشر؟ ما هي نسب النمو والتطوّر والتقدم ومستويات الدخل؟ كم هو عدد المستشفيات والمدارس التي بنيت؟ ما مدى فاعلية نظام الضمان الاجتماعي والصحي الذي تحولت أمواله إلى جيوب المسؤولين؟ وهل هناك إحصاء حقيقي لنسبة البطالة وما هي المشاريع التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة لتنمية قدرات هذا البلد الغني؟ والأهم ما مقدار الأمن والاستقرار الذي تحقق؟
تثبت لنا تجارب الشعوب إن الفعل البشري يمكن له أن يسمو ويتطور فقط لو تضافرت الجهود والنيات الصادقة في بناء وتطور الوطن، أليس مذهلا ومثيرا، ونحن نقلب صفحات التاريخ أن نجد رجلا مثل ديغول الذي تجاوزت فرنسا على يديه عثراتها الاقتصادية ومحنة الانقسام يقرر في صبيحة احد أيام الخريف من عام 1968 أن يستجيب لمطالب الشباب من المتظاهرين ويستقيل قائلا "سأقبل الهزيمة من اجل دستور فرنسا الذي هو شرف الأمة وعنوان جمهوريتنا". قرر ديغول أن يعتزل بعد أن ترك وراءه بلدا مزدهرا التأمت جروحه.. فالاحتكام لصوت الناس ليس عيبا ولاطعنا في الوطنية. تقوم تجارب الشعوب الحية على نكران الذات والمشاركة الفاعلة في بناء البلاد وصدق المشاعر الإنسانية، فيما تقوم تجاربنا على الجروح التي يتركها الساسة في جسد الوطن. قبل أيام وأنا أتصفح كتاب الفيلسوف هربرت ماركيوز "الإنسان ذو البعد الواحد" أعادتني كلماته إلى تلك الأيام التي كان فيها هذا الفيلسوف وكتابه بمثابة إيقونة التحرر بالنسبة للشباب الأوربي في ستينيات القرن الماضي، التمرد والمطالبة بالتغيير كان شعار الطلبة الفرنسيين الذين قادوا انتفاضة عام 1968، انتفاضة حالمة، رفعت شعار، رفض القمع، رفض الاحتواء. فيلسوف غذى بكتاباته أفكار جميع الغاضبين في أوربا فرفعوا شعارات منددة بسيطرة المؤسسة السياسية والاجتماعية التي تقف حائلا أمام حريتهم الشخصية، شعارات قال عنها سارتر: "يتدفق منها شيء مدهش، مزعزع يدين كل ما أدى إلى وصول مجتمعنا إلى ما وصل إليه من رداءة".في تلك الأيام كان ديغول محاطاً بالكاتب أندريه مالرو. ولكن في الخارج كان سارتر يكيل النقد لسيد الاليزيه، فما انفك فيلسوف الوجودية يحارب ديغول ويسخر منه، مواجهة حادة بين عبقرية الفكر وعبقرية السياسة، كان فيها ديغول يحترم سارتر وحين أصبح الأخير رمزا يلهب مشاعر الطلبة ويقود اعنف التظاهرات وحين امتلأت صحف فرنسا بصوره وهو يوزع المنشورات ضد نظام الحكم، طالب عدد من القادة الأمنيين والوزراء بسجنه، رد عليهم ديغول بعبارته الشهيرة"، هل يمكن أن نضع فرنسا في السجن". كأنما الدرس الذي تعطيه بعض الشعوب موجه على نحو خاص، إلى بلد الأزمات والديمقراطية الزائفة التي فتحت الأبواب أمام اللصوص والمزورين واغلقت كل المنافذ أمام الكفاءات والخبرات، فاليوم نعيش في ظل ساسة مدججين بعبارات الرفض، مجبولين على كره الحوار، يأنفون من ثقافة الشراكة السياسية. فيعيش الشعب معهم على الهامش، يوميا تتحول بيوت عشرات العراقيين إلى مآتم في الوقت الذي نجد الساسة والمسؤولين يذهبون صوب مايكرفونات الإعلام يبثون، يحتجون وينددون فيما عوائل الضحايا لا تزال حتى هذه اللحظة تنتظر من يمد يده إليها لينقذها من العوز والفقر والتشرد، الحكومات الفاعلة تفتح طرق الحياة مع مواطنيها، فيما يشيد ساستنا سدوداً بينهم وبين الناس تكبر يوما بعد يوم.منذ تسع سنوات والناس تسمع كلاما وخطباً عن الرفاهية والاستقرار والحرية.. لكن في النهاية تجد أنفسها أمام سياسيين البعض منهم بلا خبرة ولا مقدرة والبعض الآخر من أنصار نظرية المؤامرة فتراه يردد كل يوم انه يتعرض لمؤامرات خارجية وداخلية حتى تتم إصابة الناس باليأس والعجز من كل شيء وبالتالي يرضون بالمقسوم.ولعل ما يحدث الآن لا يختلف كثيرا عن ألاعيب السوق والتجار، حيث يتم اخفاء سلعة ما حتى تصبح عزيزة وغالية، وهاهم سياسيونا يسعون لاخفاء الامن والاستقرار والطمانينة عن بيوت الناس، كي يدفعوهم للرضوخ الى منطق القائد الذي بيده مفاتيح كل شيء. عفوا ايها السادة: لانريد ديمقراطيتكم.
العمود الثامن:ديمقراطية العبوات الناسفة
نشر في: 3 يوليو, 2012: 09:20 م