لطفية الدليمي عندما زرت متحف الملكة صوفيا للفن الحديث في مدريد 2004 وقفت برهة في حضرة الغورنيكا - تأملتها وبكيت، بكيت مرة من أجلها، من أجل القرية الباسكية الصغيرة التي كانت معقلا للثوار الأسبان سنة 1937 وقصفتها طائرات النازية الألمانية بالاشتراك مع طائرات الفاشية الايطالية للقضاء على الثوار.. وبكيت ثانية من أجل غورنيكاتنا الألف قبل الاحتلال وبعده - وكانت بغداد قد دمرت بطائرات قوات التحالف وانهارت
بيوتنا ومدارسنا ومتاحفنا وجسورنا وكانت لنا في كل صباح غورنيكا تصرخ من أعماق الخراب المابعد حداثي، كانت الغورنيكا بلونها الرمادي والأبيض والأسود تعطي انطباعا بطيف لوني ذي اخضرار شفيف لعل سببه انعكاسات الأضواء التي حددت مساقطها بدقة على اللوحة.لما بكيت أمامها سمعتها تنشج بصوت كتيم، كانت وجوه نسائها الثلاثة تحتل مركز اللوحة: المرأة التي تحمل المصباح والمرأة الصارخة والثالثة الهاربة، كن يشاركنني التفجع ولما أدركت الغورنيكا دموعي التي تساقطت على الرخام وبللت الحبل الحريري السميك الذي يحول بيني وبينها، رأيتها تقترب مني وتتخطى حاجز الحبال ويلتمع شعاع مصباحها المحطم على وجهي وكأنها كانت تحاول عناقي وكأنها استشفت لوعتي على غورنيكات بلادي الموزعة مابين حلبجة ومدن العراق السبية، وكأنها كانت تهمس لي: ستبقى الغورنيكات مابقي الانسان يتبع شهوة الدم، فهذا قدر البشرية ودور الفن أن يصون شعلة الأمل. الغورنيكا التي يفخر متحف الملكة صوفيا للفن الحديث في مدريد بأنها إحدى أهم معروضاته وأثمنها، لبثت سنوات طويلة في متحف الفن الحديث في نيويورك ثم نقلت إلى اسبانيا بعد رحيل الجنرال فرانكو وجرت احتفالات كبيرة باستعادتها ووقفت طوابير النساء والرجال أياما من اجل القاء نظرة على أيقونة الفن الحديث التي تتحدث عن مناهضة الحرب والتمسك بالامل والسلام ، فكانت ترى العجائز اللائي فقدن ابناءهن ورجالهن وعشاقهن في الحرب الاهلية يقفن امام الغورنيكا وتكاد وجوههن المخددة بالغضون العميقة وأسى الفقدان تتشابه مع الوان اللوحة الرمادية الحزينة، أما الشباب من الجنسين فقد كانوا يمرون أمام الغورنيكا بنوع من الزهو الممزوج بالعقلانية، يتظاهرون بالاهتمام أمام الألم الإنساني الذي جسدته لوحة بابلو بيكاسو الخالدة.. تحولت الغورنيكا خلال القرن العشرين من لوحة فنية تؤرخ لكارثة انسانية شهيرة الى رمز للفن الحديث كمثل السيمفونية التاسعة لبيتهوفن بالنسبة للموسيقى الكلاسيكية، لانها غدت أيقونة ثقافية تخاطب الجنس البشري في أنحاء عالمنا وتحث الناس على مناهضة الحروب والايمان بالامل والسلام حتى عدت أحد مصادر الثقافة الحديثة عن النزعات العنصرية التي اتبعتها النازية والفاشية ازاء البشر .. غادرت القاعة المخصصة للغورنيكا مع دموعي وشجن القلب، كانت ألوانها المتدرجة بين الرمادي والأسود والأبيض تغطي المرأى حتى أنني توقفت برهة أستعيد فيها قدرتي على البصر ومشاهدة أعمال فنية أخرى لبيكاسو وخوان ميرو وتابيس، وللتخفيف عن حزني دخلت القاعات المخصصة للاحتفال بمئوية سلفادور دالي عاشق فرانكو والذهب والذي كان يعلن بوقاحته المعروفة (انه يؤمن بإنسانية كل الرزايا ويردد دائما تبا للبشرية - أنا احتقرها ) احدى القاعات كانت تعرض الإعلانات التي صممها دالي والاشرطة الإعلانية التي اشترك فيها ممثلا وعارضا للسلع: إعلانات عن الشيكولاتة والعلكة والجوارب النسائية والسيارات كان يعلن عن الزائل والتافه واليومي ليتمتع بملمس سبائك الذهب التي يطلبها بدل النقود ثمنا للوحاته – هكذا تتجاور في دنيانا على نحو ساخر عبقرية الانسانية لدى بيكاسو وعبقرية الجنون والجشع لدى سلفادور دالي.
قناديل :الغورنيكا وغورنيكات زمننا
نشر في: 4 يوليو, 2012: 06:40 م