علي حسين عبيد تضخيم المنجز الفردي بدأ يتصدر أهداف الشخصية العراقية في الأشهر الأولى بعد نيسان 2003، والسبب يُعزى إلى حالات التغييب القسري والتهميش المتعمّد للفرد على مدى عقود -وربما قرون- متتابعة، وتحجيم دوره في تشكيل الخريطة السياسية للبلد، لذلك ما أنْ رُفعِت القضبان وأزيحت حالات التكبيل المتواصل للشعب، حتى أفصحت الشخصية العراقية عن رغباتها في التصدّر والظهور والتضخّم الذاتي، مقرونا بإلغاء الدور الجماعي أو محاربته في تشكيل الاحداث والنتائج في هذا المجال أو ذاك.
وهكذا قفز الهامش إلى المركز في الحياة العراقية عموما، وهو أمر محمود لو أنه حدث بصورة متدرجة وطبيعية، فالكل يطمح إلى الرقي والتطور، ولكن عندما تتم عملية الارتقاء من الهامش إلى المركز بصورة دراماتيكية متعجلة، كما حدث معنا في العراق، فإن النتائج السلبية المرافقة ستكون كبيرة ومنها على سبيل المثال، شيوع ظاهرة المغالاة الفردية على حساب روح الجماعة، والتي طبعت عموم الأنشطة العملية وحتى الفكرية منها، بل يشير بعض المختصين إلى ما هو أخطر من ذلك، عندما يؤكد تضاؤل الولاء الوطني مقابل بروز الولاءات الفرعية، وهو نتاج طبيعي وواضح، للروح الفردية التي أخذت تطغى على كل شيء.ولعل الأخطر في هذا المضمار، تفشي روح المؤامرة بين الفرد والجماعة في إدارة معظم المجالات التي تتطلب عملا ذا طابع تشاركي، سواء في إدارة المؤسسات الحكومية ذات الطابع السياسي، أو في الاقتصاد أو التعليم أو حتى الأنشطة الإعلامية والثقافية عموما، فحين يعمل الفرد ضمن مجموعة تقود المؤسسة الفلانية، فإنه يريد أن يحتل الصدارة في كل شيء، ويطمح بل يطمع ويعمل على لفت الانتباه إلى شخصه ومنجزاته الفردية، أما الآخرون فليذهبوا إلى الجحيم!، هذه الروح الفردية المغالية تساورها هواجس المؤامرة على الدوام، وتنظر إلى الجميع ليس كشركاء بل أعداء يحاولون سرقة الأضواء منه، أو التقليل من ضخامة شخصيته، وهو مرض نفسي بدأ يتفاقم في الشخصية العراقية كإفراز متوقع للانفتاح السريع في مجالات الحياة العراقية كافة، لذلك بدأت هواجس الروح المتخوفة من الآخر تتصاعد وتنمو لدى الفرد، فأصبح العمل الجماعي يعيق طموحاته النفسية التي تهدف إلى تلميع ذاته، والنظر إليه على انه الأهم دائما، وهو كما ذكرنا نتاج تهميش مسبق عانته الشخصية العراقية طويلا، لذلك نلاحظ أن الفرد العراقي في المرحلة الراهنة غالبا ما يفضل نفسه على الآخرين، وغالبا ما يسعى إلى تصدّر المشهد أيا كان نوعه أو مناسبته، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى حد الصراع والتنازع على احتلال المقاعد الأولى لهذا المحفل السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، أو ذاك!!، وهي ظاهرة نفسية مرضية تؤكد رغبة الشخصية العراقية بتضخيم الذات على حساب الآخر أو الجماعة، ولا علاقة لهذا الأمر بالمكانة الاجتماعية أو السياسية أو الدينية وسواها، فالمقامات محفوظة، وينبغي أن تكون كذلك دائما، لكن أن يتصارع الأفراد (النخب وسواهم) على حالة كهذه، فهذا دليل مؤكد على العطش الخطر لتمجيد الذات، وثمة حالة من اللهاث العجيب وراء المكاسب، تتلبس الفرد، لاسيما المادية منها، حتى لو جاء هذا الأمر على حساب الآخرين!، وهذه إشكالية نفسية مؤسفة قد تنعكس بخطورتها على الواقع المجتمعي عموما، فهي لا تتسق مع التوجه العام نحو التحرر والانفتاح والعمل في ظل شفافية ونزاهة ينبغي أن تشكل الملامح الأهم والأوضح للمرحلة العراقية الراهنة.ولكن لا يصح أن يستمر الحال كما هو عليه، فالبلد يحتاج إلى العمل الجماعي المتعاون أكثر من أية مرحلة ماضية، والوصول إلى هذا الهدف يتطلب تخليص الفرد من الشعور المزمن بالمؤامرة إزاء الآخرين، ونشر روح التعاون والعمل الجماعي المثمر، وقد تبدو الحلول أو معالجة هذه الظاهرة غاية في الصعوبة، وهو أمر صحيح، كونه يتطلب سعيا جماعيا منظّما، يبدأ من قمة الهرم (السياسي الثقافي الاجتماعي) لمكافحة (روح المؤامرة) ونشر ثقافة العمل الجماعي التعاوني والثقة المتبادلة بين الجميع، وهذه القضية من مهام النخب العراقية قبل غيرها.
روح المؤامــــرة
نشر في: 4 يوليو, 2012: 06:52 م