حازم مبيضين ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم.. لكن غسان تويني تعدى الثمانين بست سنوات ولم يسأم, فالحياة التي عاشها لم تكن قابلةً لغير الإبداع, إذ اختلط فيها الخاص بالعام, فكأن لبنان هو الذي عاش تلك السنوات في جسد الراحل الكبير, وكأن تاريخ الصحافة النزيهة هو الذي كان
يكتبه قلم غسان, ولم يكن معنياً بكتابة تاريخه الشخصي, تاركاً ذلك للآخرين, لانشغاله بما هو أكبر وأهم, لبنان الوطن الحر السيد المستقل, والصحافة التي تحمي وطن الأرز وتدافع عنه, بكل ما تملكه من جرأة الجبل وعنفوانه, وما تتوفر عليه من حرية ظلت عنوان النهار وصاحبها, وهو الذي ظل يمارس عمله الصحفي سياسياً يترفع عن مكاسب السلطة, واضعاً نصب عينيه, وفي حبر قلمه, الصالح العام هدفاً يستحق النضال والتضحيات. عميد الصحافة اللبنانية, وعملاق الصحافة العربية, عاش حياته مطارداً بقسوة القدر, ليستحق تشبيهه بأبطال التراجيديا الاغريقية, وهو الذي فقد زوجته وطفلته بمرض السرطان, وفجع بنجليه مكرم وجبران الذي استهدفته سيارة متفجرة, مستهدفة معه صوت الحرية والكرامة الانسانية, سيغير غيابه الكثير من الأشياء العابرة, لكن القضايا الأصيلة التي دافع عنها أو بناها, ستظل صامدة وباقية, ما بقي لحبر المطابع لون ورائحة, طعم قهوة الصباح عندنا سيكون مختلفاً, وسيكون لعبير الياسمين في حواري بيروت العتيقة رائحة مختلفة, ولكن أكثر زخماً, لكن النهار كقلعة للحرية والمهنية والجرأة ستظل كذلك, لانه أرادها أن تظل, فزرع وربى في كل زاوية منها شتلةً, عصية على القمع والظلم والقهر وفقدان البوصلة. مؤكد أن ما يغادرنا اليوم هو جسد غسان, أما روحه فستظل في أروقة النهار, وستظل روائحه مختلطة بحبر المطابع, وسيظل صوته يهدر ناعماً وحاسماً قرب مكاتب المحررين, وسيرافق مندوبي الصحيفة في جولاتهم اليومية, وسيظل المحرر المناوب ينتظر اتصاله المسائي, وسؤاله عن مانشيت اليوم التالي, وستظل الافتتاحية التي اعتدنا أن يوقعها, تشي بأن تلاميذه الكثر سيظلون أمناء على رسالته, التي قضى عمره رافعاً بيارقها ومنادياً بمضامينها.لم تكن علاقة تويني بالسياسة عابرة أو غير أساسية, فقد ظل على مدى عمره فاعلاً في الأحداث, استحق لقب صانع الملوك, فالنهار تحت قيادته كانت قادرة على تسويق أي شخصية لمنصب قيادي, وعلى تحطيم أي صورة لقيادي آخر مهما كانت ناصعة وقوية, والحال كذلك في الصحافة, فقد صنعت النهار, بعد أن فهم المايسترو اللعبة, فحولها إلى صناعة, نجوماً في عالم الحرف, وكان يكفي لأي صحفي حتى لو كان مجرد هاو, أن ينشر اسمه في النهار لينال مجداً صنعته النهار, ولم ينتج عن نشاطه أو إبداعه.لن تغيب الشجاعة عن حروف الصحيفة المدرسة, التي تعلم كل صحفيي العرب شيئاً من مهنيتها, التي أرسى قواعدها الراحل الكبير, وستظل عنواناً للحقيقة, في بلد يتم فيه تغييب الحقائق بقوة السلاح, وسيظل صوت غسان المستنسخ في كل العاملين في النهار, التي تعهدها بالرعاية أكثر من ستين عاماً, مجلجلاً منادياً بالحقيقة, ولا شيء سواها ولا شيء فوقها أو أكبر منها, وسيظل على كل مشتغل بالسياسة في لبنان أن يبدأ يومه بالنهار ليكون على اتصال بالعالم الحقيقي وبعيدا عن الأوهام الطارئة أو المفتعلة.لكننا مع كل الأثر الذي سيلعبه إرث غسان تويني نعترف بالخسارة الكبيرة المتمثلة برحيله عن لبنان الذي يعيش وضعاً هو أحوج ما يكون فيه إلى قامات كقامته, وإذ نشعر بكل هذا الحزن ووطأة الغياب حتى وإن لم نلتق يوماً غسان تويني, لكننا كنا على الدوام نتتلمذ على يدي مهنيته الخلاقة المبدعة الشجاعة, فإن أسانا مضاعف على الذين كانوا يحظون يومياً بلقائه والتعلم على يديه, ولمن تبقى من عائلته الصغيرة, التي فجع بغياب الأحبة منها وهو على قيد الحياة, ولكل الشرفاء في لبنان كل مشاعر التعاطف والعزاء.
في الحدث :غسان تويني في ذمة الخلود
نشر في: 4 يوليو, 2012: 06:59 م