سرمد الطائي مشهورة حكاية الديك الذي ضاع في بغداد فوجدوه بعد بضعة أيام في البصرة. والكشاكيل التي تتناقل حكايات العصر العباسي مليئة بهذه النوادر والطرائف، التي كانت لدى كثيرين بمثابة "حقائق". فالمبالغات جزء أساسي من طريقة رواية الحقيقة وسردها في الماضي، رغبة في التشويق أو رسم صورة وردية لحقبة ما. وقصة الديك تتعلق بإظهار حجم المنجز العمراني والتنموي الذي شهده عراق العباسيين، إذ يقال ان البيوت كانت كثيرة جداً في العراق يومذاك الى درجة انها سلسلة بناء متصل من بغداد الى البصرة دون أي انقطاع.
ولكي يدلل مؤرخو ذلك الزمان على وجود ألف "بسماية" أنجزتها "هيئة استثمار" هارون الرشيد، ذكروا حكاية تدعمها، وهي ان امرأة ذهبت الى القاضي تشكو له ضياع ديكها الذي ربته منذ كان صغيراً وتعلقت به كثيراً، وكان القاضي يومذاك يهيمن على كل الصلاحيات الأمنية والجنائية والتحقيقية، فأمر أعوانه بالبحث عن الديك، ولشدة مهارتهم في ضبط الأمن وخبرتهم المتراكمة وسيطراتهم المنتشرة، فقد وجدوا الديك خلال بضعة أيام، ولكن بعيداً في البصرة. وبعد تحريات بسيطة اكتشفوا ان الديك قفز من دار تلك السيدة في بغداد على سطح الجيران. ثم قفز على الجار الذي بعده، وحين أعجبته الفكرة راح يقفز من دار الى دار قاطعاً كل المدن المتصلة وعمرانها غير المنقطع، حتى وصل الى البصرة فرصدته عيون القاضي وجواسيسه وأعادوه الى العجوز البغدادية سالماً معافى.وقديماً لم يكن هناك وسائل شهادة كافية أو تصوير فيديو يوثق الحقيقة، وكان في وسع الرواة والمؤرخين أن يقولوا كثيراً من الأشياء بسهولة لأن الناس لا تمتلك أساليب كافية للتدقيق. لكن الأمر لا يزال موجوداً في عصر الفيسبوك واليوتيوب، والمبالغات تأخذ من عقول الناس أكثر مما تؤثر فيها تقنيات تدفق المعلومات، ولدينا كلّ يوم نماذج كثيرة لحكاية ديكنا البغدادي هذا في عوالم السياسة والفن والمال والدين وسواها.وقبل بضعة شهور كنت في منطقة نائية من العراق واستأجرت سيارة لنقلي الى مركز المدينة، فتفاجأت بأن السائق من سكان البادية القريبة، وهو محمل بحكايات الصحراء الرومانسية، لكنه أيضاً "يفهم كثيراً" في التاريخ السياسي المعاصر. يقول صاحبنا ان مشكلة العراق لن تحل بسهولة وانه سينقسم الى دويلات. ومستنده في ذلك ما جرى للصين قبل عشرة أعوام! ماذا جرى للصين يا حاج؟ يقول: عام 1999 قام الأمريكان باحتلال الصين التي كانت محافظة هندية، وأول إجراء لهم كان تحويل سكان الصين "المسلمين" الى مسيحيين. ويؤكد: ان الصين كلها مسيحية اليوم، وهو يشتم أمريكا لأنها فصلت "الصين" عن "الهند المسلمة"، وحولت الأولى الى مسيحية! والرجل مقتنع بأن الامريكان لم يرحلوا من العراق وأنهم بدأوا بتحويلنا الى مسيحيين، وحين تكتمل القصة سيقومون بتقسيمنا.يقول هذا الرجل انه يسرد هذه الرواية كل ليلة في خيمته أمام أولاده وضيوفهم لتحذيرهم من "الأجندات الدولية"، فأولاده لا يزورون المدينة إلا نادراً، وهو يستغل عمله كسائق تاكسي في جمع هذه المعلومات من المدينة وإيصالها الى البادية. ويؤكد انه سمع هذه الحكاية عن احتلال أمريكا للصين، من رجل أوصله مؤخراً الى بيته، وانه حزين جداً لهذه الاخبار.لم أحاول طبعاً أن أزعزع "يقين" هذا الرجل البريء، ورحت اؤكد له ان هذه حكاية شهيرة وصحيحة، ونتمنى ان تقوم السماء بإفشال عملية تحويلنا الى "قصة صينية"، لكنني كنت أفكر أثناء ذلك بالتاريخ الطويل العريض الذي كتبه القدماء عن أهم قضايانا، وكم من المبالغات دخلت فيه لأسباب كثيرة، وتنقلتْ بسلاسة من دار الى دار، على طريقة الديك البغدادي الموما اليه.والأغرب من التاريخ هو تصريحات نوابنا هذه الايام، والتي قدمت لنا نموذجاً رهيباً لكيفية إدارة الصراع بين الخصوم. فالكثير من هؤلاء يقودون سيارات الأجرة بعيداً عن خيمتنا نحن المنقطعين عن الحقيقة وسط صحراء اليأس. يعودون مساء من "صولاتهم السياسية" ويظهرون على شاشات التلفزيون، ويتفوهون بأشياء لا تختلف كثيراً عن ديك السيدة الكرخية أو صين سائق التاكسي الذي يلتقط مجازات المدينة "الخبيثة" ويحولها الى حقائق ستأسر عقول أبرياء الصحراء وقتاً طويلاً، فتقوم بتخدير الأرواح وإلهائها بحكايات خائبة، لصرف الأنظار عن جوهر أزمة تفتك بأحلامنا كلّ يوم.
عالم آخر:الديك والصين ومبالغات أخرى
نشر في: 4 يوليو, 2012: 07:01 م