محمد ثامر يوسف لا تعكس الصورة بالضرورة مزاج مريديها ولا هواهم، بقدر ما تنبّه إلى شدة ضغطها عليهم أو قسوتها، حتى وإن بدا أولئك على غير ما هم عليه في الحقيقة، أي كمعجبين مفترضين، أو متدينين أبرياء، أو أتباع يزجون وقتا بترويج الصور وإشاعتها. لا بالطبع، الأمر غير ذلك، انه أقسى بكثير.
من بزة صدام العسكرية حتى سحر العمامة وسطوتها في عراق اليوم، يتكرر فعل الصورة الحاد هذا وأثره، آلاف المرات، مثلما يتكرر أولئك المريدون أو الأنصار أنفسهم ويتناسلون في كل وقت، مسحورين (بهواهم ورغبتهم أو بدونهما) بقدرة الصورة وفعلها الرمزي الواضح.يغدو الإفراط الأيديولوجي المبثوث من الصورة في المكان العراقي اليوم، أحد شروط التلاحم الضمني الثابت في اللاوعي كطريقة مفترضة للخلاص. الصورة مقابل الطمأنينة المفترضة، الصورة المقدسة في ذاتها بوصفها حلا رمزيا لكل النكبات والأزمات الهائلة، أي الصورة بكونها غاية، حتى لو تعلق الأمر بنسف الحياة نفسها أو تأجيلها. هكذا يتم اليوم استثمار قدرة الصورة على ذلك في كل مكان، وهي في الغالب صور لشخصيات دينية أو دينية سياسية أو جداريات دينية توليفية، إلى أقصى حدود الاستثمار. يفعل ذلك الوعي الجمعي نفسه، ضد نفسه هذه المرة، أو مقودا من قوى نافذة مستفيدة. احتاج صدام إلى كثير من الوقت لترسيخ فعل "صورته" في المكان. الصورة المطلقة إلى ما لا نهاية، الصورة المتعددة كثيمة محايثة تحل عوضا من الجسد الأصل (صدام) ومكانه. هكذا كان الجنرال يشبع خيال رغبته بالكثرة والتكرار، ينوجد في كل مكان، وإلا لا يكون.لكي تتحول الصورة اليوم قوة افتراضية - وهذا ما فعلته، أي عادة أو اعتيادا مقدساً - تحتاج في الضرورة إلى أتباع مخلصين، إلى مريدين مسحورين بفعلها. تحتاج إلى رافعي صور، موزعي صور، لاصقي صور على الحيطان، على جنبات البيوت وفي داخلها، في الأزقة والشوارع، مستنسخي صور، وأنصار. وتحتاج بعد ذلك بالطبع، وهذا هو الأهم، إلى مدافعين عنها بصفتها المقدسة، حيث تزداد قيمتها المعنوية وترتفع قدسيتها بمجرد إعلانها ونشرها وتثبيتها، كما لو كانت تحمل ضديتها داخلها تجاه الآخرين، ضد مخالفيها لو وجدوا، أو ضد المعترضين عليها لأسباب جمالية وذوقية في الغالب حتى، ولو تطلب الأمر معاداتهم، أو الاستنكاف منهم، لا بل التعرض لهم إن اقتضت الضرورة. هكذا أتيح للصورة المعلقة في كل زاوية من عراق اليوم، في المستشفى، في المدرسة، في المؤسسة الرسمية، في الجامعة، في الشارع، في ملعب الرياضة، أن تلعب دور المراقب على الأفعال الأخرى، الأفعال المغايرة أو الرؤى المخالفة. أو هكذا يراد منها. ليس فقط كونها رمزاً إيديولوجيا لخطاب جهة دينية ما أو حزب، ولكن لتمنح أيضا الأتباع (أتباعها) صفات وميزات خاصة لا يحوزها الآخرون الأقل إيمانا بالصور، أو الذين لا يعنيهم الأمر، مثلما تُمررّ لهم غايات وحاجات ومنافع كثيرة، أي تجّوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، بإمكاناتها وقوة حضورها المقدس في المكان. بهذه القوة التي تبعثها، تمكّن الصورة (اللافتة أو الشعار أيضاً) مستخدميها أو مستثمري حضورها من فرص معنوية كبيرة تقوّي وجودهم وسط الجمهور أو تمنحهم ما يشي بقداسة ما، أو مناعة ضمنية مضاعفة تتجاوز في الغالب حتى القوانين الرسمية المعلنة، أو الإرادات العليا "المتواطئة" في الحقيقة. وتتيح لهم في أحوال أخرى إفادات مادية متعددة، عبر الاستغلال غير الشرعي للمكان الحاضن، دائرة رسمية أكان أم مؤسسة عامة، أم غيرها من الأماكن المدنية المحايدة التابعة افتراضاً للدولة. يعاني مثلا كثر من المديرين العامين أو حتى بعض الوزراء أنفسهم في أحيان، من عدم قدرتهم على تحييد المؤسسات الرسمية التي يعملون فيها، أو إبعادها من تأثيرات النمط الشائع في تسييسها أو تديينها وأدلجتها، حيث تتنفذ قوى مهيمنة وتتعالى فوق كل شيء، محتمية بقوة العلامات القدسية التي تروّجها. هكذا يتم نشر الصور ولصقها وإشاعة الرموز الدينية العديدة فيها، بالسهولة والعشوائية اللتين يتم فيهما نشرها وتثبيتها في الشوارع والساحات، سواء كصور كبيرة وملونة أو كجداريات رسم ولافتات وشعارات تحمل نفسا أحاديا واضحا. بذلك يتحول المكان الرسمي العام جزءاً مكملاً لصورة الشارع نفسه، بكل مساوئه وفوضاه وانفلاته. أي أن هذا يصبح محايثاً لذلك، وتابعاً لمشهدية العبث والقبح التي ينطوي عليها شكله ومزاجه الفائر. هذه الصعوبة التي يواجهها عدد من المسؤولين في مؤسساتهم، تتولد عادة من قوة الأفراد الأتباع، من كثرتهم وسطوتهم في المكان المقصود، في مقار الوزارات، والمديريات العامة، والجامعات وغيرها، حيث تأخذ المحمولات الدينية والسياسية دوراً كبيراً في إبعاد هذه الأماكن عن مهماتها وأهدافها الأساسية التي وجدت من اجلها. كما تقف هذه الرغبة المسيطرة بين المحاولة في تحييد الأمكنة المعنية بوصفها مستقلة أساسا وحاضنة للجميع، وبين الطموح الجامح في تحديد هوية المكان لصالح هذه الفئة أو تلك الطائفة، من خلال العديد من الوسائل، أهمها الإصرار اللافت على نشر ما أمكن من العلامات والرموز الدالة عليها، أو الموحية بوجود من يدفع بها.في هذا المعنى تساهم الصورة بقدر واضح في تحديد هوية أتباعها (أتباع من في الصور
فـي الصورة واستبدادها
نشر في: 4 يوليو, 2012: 07:30 م