أحمـد عبد الســادةلا شك في أنّ الكلام عن الزيجة القائمة بين فن الرواية وفن السينما يحتاج أولاً الى تحديد عناصر وملامح كل منهما، وذلك لمعرفة إشكالية الاشتباك الحاصل بينهما، ذلك الاشتباك الذي يقضم في أغلب الاحيان من أفق الرواية لصالح السينما.
هناك حقيقة بديهية تتلخص في أنّ السينما لا يمكن أن تحتوي على الانفعالات والتداعيات اللغوية والشعورية للرواية، أي بمعنى أنّ الفيلم لا يغني مطلقاً عن قراءة الرواية، وهذا ينسحب – بنسبة أو بأخرى – على جميع الروايات التي تحولت الى أفلام سينمائية.عالم الرواية عالم متشعب وطائش يضم تحت جناحيه الشاسعين رؤى ومفاهيم وأفكاراً ومكابدات نفسية ووجودية وحوارات ومونولوجات داخلية وتفاصيل دقيقة ومغامرات لغوية مديدة، وبالمقابل يعتمد عالم السينما على ما يمكن أن نسميه (الضربة الصورية) أكثر من الاعتماد على اللغة، إذ غالبا ما نجد في السينما اختزالا للكلام وتكثيفا للأحداث، الشيء الذي يمنح سيادة واضحة لسلطة الصورة. تعتبر الصورة طبعاً حجر الاساس والمحور في الصناعة السينمائية، كما تعتبر تجسيداً حاسماً للخيال الناتج عن القراءة، ومعادلاً موضوعيا للغة في الرواية، فما يمكن مثلا أن يعبــّر عنه بـ (100) صفحة في الرواية يمكن أن يـُختزل بمشهد من ثلاث دقائق مثلا في السينما، لذلك من البديهي القول أنّ من المستحيل أن تذوّب كل العناصر والتفاصيل الروائية المهمة في مصهر السينما، وبالتالي لا يمكن مطلقـاً – كما أسلفنا – الاستغناء عن قراءة رواية لمجرد مشاهدة فيلم عنها، اذ أنّ الرواية تبقى فناً قائماً بذاته له اشتراطاته البنائية والجمالية الخاصة، فنــّـاً لا يمكن أن تختزله السينما التي هي بالمقابل فن له أبعاده واشتراطاته الجمالية الأخرى، لذلك يمكن القول بأنّ ما يحدث من علاقة زواج غير مكتملة بين الفنين (الرواية والسينما) لا يعدو –في أغلب الاحيان – اكثر من استثمار صوريّ للزخم الحدثيّ والثراء اللغويّ الموجودين في الرواية.إنّ أكثر ما يقضّ شعور الروائيّ الذي يشهد تحول رواية له الى فيلم سينمائيّ ، هو الخوف من أن لا تصل اللقطة السينمائية الى ذلك المناخ اللغويّ والنفسيّ والفكريّ المغروس والمنتشر في الرواية، وهذا الخوف برأيي – فضلا عن الرغبة بحماية خيال القارىء من تجسيد السينما – هو الذي غمر ماركيز بدوامات التردد قبل أن يصادق على تحويل روايته العظيمة (الحب في زمن الكوليرا) الى فيلم سينمائيّ، ذلك الفيلم الذي قرأت عنه قبل أيام تقريراً في موقع (العربية نت) وصف كاتبه الفيلم بأنه ( يشبه في إعادة صياغته للرواية الأدبية بصرياً تقديم فرقة هواة مدرسية عرضاً مسرحياً لنص من النصوص الشكسبيرية).إنّ خيانة العملية السينمائية للمناخات الروائية تصبح – في أغلب الاحيان – مسألة حتمية خاصة إذا كان العمل الروائيّ مركباً وممتلئاً بتداعيات وانزياحات لغوية هادرة لا يمكن أن تحتويها الصورة السينمائية الهاربة، إذ كيف يمكن للسينما أن تترجم مثلا الأجواء الكافكوية الغامضة والمعقدة واللامعقولة، وكيف لها أن تترجم روايات مدرسة تيار الوعي التي تزعمها جيمس جويس وفرجينيا وولف ووليم فوكنر، وكيف لها أيضا أن تترجم التصدعات النفسية الهائلة والعذابات العقلية المطولة والثقيلة في روايات ديستويفسكي الذي كان سيـُصدم بالتأكيد وسيأكله الالم – لو كان حياً – وهو يشاهد مدى الاختزال الظالم والمهول الذي تعرضت له روايته (الجريمة والعقاب) عند تحويلها الى فيلم سينمائيّ.تجدر الاشارة طبعا الى أنّ هناك نوعاً من الروايات يمكن أن نطلق عليه (رواية الحدث)، وهو نوع يعتمد بالدرجة الأساس على سلسلة درامية من الاحداث أكثر من اعتماده على المناخات والانزياحات اللغوية، ذلك النوع الروائيّ – أي رواية الحدث – يملك من المقومات ما يؤهله الى اقامة زيجات سلسة – نوعا ما – مع السينما، ما ينتج بالتالي أفلاما مقبولة وناجحة نسبياً إذا ما قورنت بغيرها، والأمثلة على ذلك النوع عديدة كرواية (البؤساء) لفيكتور هيجو وروايات نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس التي حققت حضوراً لا بأس به في خارطة السينما العربية. لا بدّ من الاشارة أيضاً الى أنّ هناك بعض الافلام الروائية حققت نجاحاً مقبولاً بسبب ذكاء المخرج في اختيار الممثلين المناسبين لتجسيد الشخصيات الروائية، والمحافظة قدر الامكان على المناخ العام للرواية كما حصل في الفيلم الجميل (لوليتا) المأخوذ من رواية بالاسم نفسه لفلاديمير ناباكوف. تبقى الرواية بالنهاية فناً لغوياً جامحاً ومتشعباً لا يمكن أن تحتويه وتأسره اللقطة السينمائية مهما بلغت درجة رسوخها في أرض المهارة والدقة والاحتراف.
ترويــض الخيــــال
نشر في: 14 أكتوبر, 2009: 08:02 م