سرمد الطائيالعلاقة في بلادنا بين "المقدس والمدنس" او المتعالي والدنيوي، مشكلة كبيرة مصاغة على نحو "خيالي" يحمل دلالات عديدة. فبسبب اجراءات امنية مشددة اضطر سائق التاكسي الذي استأجرته ان يدخل في شوارع لا أمر بها في العادة، ووجدنا أنفسنا "عالقين" داخل منطقة صناعية تحيط مرقد المتصوف الشهير الشيخ عبد القادر الكيلاني في بغداد.
السيارة كانت تسير ببطء شديد في الزحام وتتوقف أمام آلاف الورش المخصصة لتصليح العجلات، ومعظم أسماء تلك الورش تستخدم كلمة "عوالم". هنا "عالم القوايش"، وهناك "عالم البولبرن". وهكذا تلاحظ "عالم الكريز"، إلى جانب ورشة تبيع "التشبنة" ذكرتني بمشكلة ترجمة واجهتني ايام اللجوء في ايران. يومها كنت بالكاد اتعلم الفارسية وأراد صديق أن يشتري "تشبنة" لمحرك شاحنته، فلجأ لي أنا "المترجم" كي اعثر له على المعادل الفارسي للمصطلح. وبعد حوار استغرق نصف ساعة كنت أحاول خلاله شرح الوصف الوظيفي لهذه القطعة، صاح البائع الإيراني وهو يكتشف الجزء المطلوب "كاسة نمد"! أخذنا "كاسة نمد" او "تشبنة" بفرح من عثر على أمه، وبعدها بأعوام فهمت ان هذه العبارة تعني بالفارسية "كأس الصوف" ولا ادري ما هي مناسبة التسمية التي لا علاقة لها بطقوس التصوف طبعا.أما في هذا الشارع البغدادي فإن سيارات العراق تأتي لا للتبرك بمرقد الشيخ العارف الكيلاني وجامعه التاريخي المهيب، وإنما للتشافي في "عالم" الكابريتات والراديترات والمحركات الذي نسج درابينه وأزقته حول المكان المقدس. وعدا الوضع الكارثي للشارع ونقص خدمات النظافة وضيق مساراته واحتشاد كل الأجناس على جانبيه، فإن مشكلتي كانت هي "العلوق" داخل هذه المنطقة لنحو 60 دقيقة والتأخر عن مواعيد العمل، وعطل تبريد سيارة الأجرة مرتين وسط الزحام.وكنت ألجأ لقتل الوقت أثناء ذلك، إلى تصفح المواقع الإخبارية عبر موبايل سامسونغ الذي انحاز إليه معاندا شركة أبل، وابحث عن حدث سار او صورة مختلفة، إلا أن كل صفحات العراق بدت عالقة في عوالم متشابهة تلك اللحظة.واحدة من صفحات الانترنت التي طالعتها أثناء المرور أمام "عالم القوايش والسبرنكات" حملت شتائم لي، لأنني كتبت بضعة سطور في فيسبوك انقل فيها احتجاج الزملاء على احتفالية نقابة الصحفيين التي تضمنت كلمة للسيد رئيس الحكومة تغنى خلالها بحرية الصحافة، وأخرى لمسؤولي النقابة الذين استعرضوا امام رئيس الحكومة رفضهم لصحفيين "غير شرفاء" ينتقدون السلطة. وتضمنت أخيرا حفلا ساهرا للفنانة مادلين طبر. وقلت إنني لا اعترض طبعا على حفل ساهر للفنانات توضع على مسرحه لافتة كبيرة مكتوب عليها "برعاية دولة رئيس الوزراء" لكنني كنت أتمنى أن نتعلم من تجربة "نادي دبي للصحافة" الذي ينظم احتفالية سنوية يستضيف فيها صحفيين كبارا من أكثر من دولة، ورجال أعمال وساسة ومفكرين، لمناقشة الصلة بين الصحافة ومجالات الحياة الرئيسة. الا ان انصار السيد رئيس الحكومة راحوا يشتمونني وكأن المطلوب ألاّ ندلي بأي تعليق حتى ضمن صفحاتنا الشخصية على شبكات التواصل.الخبر الثاني الذي طالعني أثناء العلوق في ازدحام باب الشيخ، كان تصريحا لإمام جمعة كربلاء الذي انتقد طريقة الحكومة في نقل زائري العتبات الى مدنهم. وهو يقول إن الحكومة وضعت افواج الزائرين العراقيين والأجانب في "شاحنات" لغرض نقلهم، وهو ينتقد هذا خاصة وانه يجري تحت شمس الصيف الحارقة. والحقيقة انها صورة فنطازية جدا لوضع العراق تثير القرف، جعلتني أتذكر لقطة من مسلسل كوميدي عراقي يهرول خلاله الناس وراء "لوري" محاولين ركوبه للهرب من الحرب الأهلية، بينما تقول كلمات أغنية رافقت المشهد "افتح يا سمسم أبوابك"!في باب الشيخ وقرب ضريح الجيلاني، أتخيل كيف أصبحنا نكتب تاريخ التصوف العراقي "بزيوت التشحيم"، ونرى السياسة مرسومة بالمقلوب، بينما السيارات العاطلة تندب حظها العاثر، ونحن نقرأ أخبارا عن مادلين طبر، واعتراضات من كربلاء تدين نقل الزوار بسيارات شحن البضائع.وحين نفذ السائق بجلده من الزحام، ودخل تقاطع السنك، رحت أترحم على ظروف الشيخ الجيلاني. فمرقد الشيخ الخلاني وجامعه المعروف، محاط هو الآخر بمحلات مكتوب عليها "مستعدون لمكافحة حشرة الدوباس". وبين الجسر وكراج النهضة، يبتكر أبناء الوطن طرقهم الخاصة في صياغة العلاقة بين "المقدس والمدنس".
عالم آخر: مقدّس ومدنّس في عوالم "السبرنكات"
نشر في: 8 يوليو, 2012: 07:01 م