د.مظهر محمد صالح | 1 ـ 3 | لم تترك الأحداث التي عاشتها بلادنا بعد العام 2003 على الصعيدين السياسي والاقتصادي من فرصة إلا وكان الهاجس الرئيسِ فيها هو التحول نحو (اقتصاد السوق الذي ابتدأته سلطة الائتلاف المؤقت الحاكمة ) ،السلطة المدنية للاحتلال ،بأخذ زمام المبادرة لبناء إصلاحات سريعة في البنية التحتية القانونية
للقطاع المالي وبناء مؤسسات سوق المال وفق رؤى اعتقدت أنها تسهل انتقال رأسمالية الدولة الريعية المركزية إلى اقتصاد السوق الحر على غرار أنموذج أوروبا الشرقية في الانتقال إلى اقتصاد السوق في أقل تقدير التي كان في مقدمتها إصدار قانون لبنك مركزي مستقل يستخدم أدوات السوق النقدية غير المباشرة في سعيهِ لتحقيق الاستقرار واستهداف التضخم والتصدي لهُ بغية توفير مناخ سعري ملائم يواكب آلية تحرير الأسعار، فضلاً عن إصدار قانون ينظم عمل المصارف يتيح للسوق المالية العراقية الاندماج والتكامل مع السوق المالي الدولي وإجراء تعديلات مناسبة على قانون الشركات الأهلية في ظل ممارسة حرية التجارة والتحويل الخارجي . إذ رافق توفير مناخ سريع للتحرر المالي سياسات تحرير الفائدة والائتمان المصرفي. وبهذا باتت الديموقراطية السياسية كإطار للاقتصادات الانتقالية إلى السوق ملازمة للديموقراطية المالية والتجارية حصريا وليس للديمقراطية الاقتصادية الكلية.وفي الوقت الذي عاشت فيه المالية العامة بنعمة رأسمالية الدولة الريعية كقوة مالية مركزية مصدرها عوائد ثروات النفط، فإن شروط الاقتصاد الانتقالي التي تقتضي فرض قيود صارمة على الموازنة العامة لتعظيم الحوافز التي تؤدي إلى زيادة كفاءة اقتصاد السوق لم تجد سبيلا إلا بتغليب فكرة العدالة على الكفايــة (من خلال النمط التشغيلي الذي طبع موازنات الدولة خلال السنوات التسع الماضية وإطلاق سياسة الاستخدام الواسع عبر الموازنات السنوية) لإحلال فكرة دولة الرفاهية الريعية شديدة العدالة على فكرة الاقتصاد المتحول شديد الكفاية في طابعـهِ واستخدامهِ لقوة العمل. فالإطار القانوني والمؤسسي الضامن لحقوق الملكية واللوائـح الرقابية التنظيمية التي تسمح بالدخول إلى السوق بليبرالية انتقالية عالية، اقتصرت اليوم على سوقيـن : هما السوق المالي الحر ومن ثم السوق التجاري المعتمد تمويلاً على السوق السابقة لـه وفي إطار أحادي من الديموقراطية المالية. فالديموقراطية المالية الراهنة موضوع البحث هي اليوم مصدر الصراع وتوليدهِ المستمر عبر إشكالية لم تُحل بين رأسمالية الدولة ورأس المال المالي الأهلي، وهو الصراع الذي لم تحسم نهاياتهُ بعد في حلبة السياسة الاقتصادية اليوم.ولم يوفر الاقتصاد الانتقالي في العراق بعد العام 2003 من أسس الاقتصاد الانتقالي الكلي إلى اقتصاد السوق إلا مسببات الصراع المتمثلة بالتحرر المالي الواسع وخلق سوق مالية توازي تحرر منفلت في التجارة الخارجية، في حين لم تشهد عناصر الاقتصاد الانتقالي الأخرى أي حراك ممكن أن يتكامل مع التحرر المالي سواء في خصخصة المشاريع العامة (التي تقارب مشاريعها مئتـي مشروع وتضم بين صفوفها أقل من مليون عامل شبه مشتغل أو عاطل عن العمل) أو حتى فرض القيود الصارمة على الموازنة العامة لتعظيم الحوافز التي تؤدي إلى زيادة الكفاية الإنتاجية والاستخدام الأمثل للموارد أو حتى إقامة إطار قانوني ومؤسسي ضامن لحقوق الملكية على وفق متطلبات الانتقال أو التحول الشامل إلى اقتصاد السوق الحر. إذ يقال إن بلادنا مازالت غارقة بأكثر من ستة آلاف قيد من التعليمات الرسمية واللوائح والقوانين المختلفة المتراكمة عبر السنين والنافذة حاليا التي لا توفر الشفافية الكافية للدخول إلى السوق الحر وتسيير بيئة الأعمال الإنتاجية. فعند توصيف منظومة رأسمالية الدولة وقواها الانتقالية نحو اقتصاد السوق، فإن هذا التوصيف لابد من أن يأخذ نمطاً مختلفاً في الدولة الريعية النفطية المركزية كرأسمالية دولة ليتاح توصيف منظومة رأس المال في العراق وإشكالية الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر. فبعيداً عما عده الفوضويون في تاريخ الفكر الاقتصادي بجعلهم اشتراكية الدولـــة state socialism هـــي مُعادلة من حيث الجوهر لرأسمالية الدولـــــة state capitalism من حيث هيمنة الدولة على وسائل الإنتاج ومصادر الثروة التي عرفها نيكولا بوخارين أحد قادة ومفكري الثورة الروسية في العام 1917 في كتابهِ: الامبريالية والاقتصاد العالمي (1915) واصفاً المرحلة الجديدة في تطور الرأسمالية بأنها رأسمالية الدولة، في وقت سوغت فيه ثورة أكتوبر سياستها الاقتصادية الجديدة NEP في روسيا فـي العام 1921 بأن رأسمالية الدولة تدار من دكتاتورية الطبقة العاملة وهيمنة العمال على قوى الإنتاج. إلا أن ذلك لم يثنِ العالم في مطلع تسعينات القرن العشرين من انخراط حوالي 30 بلداً،من التي تتمتع برأسمالية الدولة أو اشتراكية الدولة، بظاهرة الاقتصاد المتحول نحو السوق الحر economies in transition. .ويوصف الاقتصاد في هذه المرحلة
استقطاب ماليّ أم اغتراب اقتصاديّ؟
نشر في: 8 يوليو, 2012: 07:51 م