احمد المهنا الهجرة ظاهرة جديدة نسبيا في العراق. فلم يكن معدودا بين البلدان الطاردة. وربما كان انعزاله الجغرافي، بسبب الجبال والصحارى الفاصلة بينه وبين جيرانه، وتأخر زحف الحضارة الحديثة عليه، من بين أسباب تمسك العراقي بأرضه، وكراهته الغربة، وامتناعه عن الهجرة.
وحتى عقود قليلة خلت كان السفر الى الخارج يبدو لمعظم الناس اشبه بالمغامرة. بل انه لكذلك حتى في حالات انتقال الفرد للإقامة من مدينة الى أخرى داخل البلد. وقد ولدت في قضاء المحمودية لأب يتحدر من الحلة. وفي أكثر من مناسبة كان يذكرني بأننا غرباء، فأرد عليه بأن شعوري معاكس لشعوره، محمودي غريب على الحلة.وأذكر ان شقيقتي الكبرى، عليها رحمة الله، كانت تنظر، على نحو ما، الى المحمودية وبغداد نظرتها الى بلدين. فحين انتقل شقيقي يوما الى الاقامة في القسم الداخلي بالجامعة التكنولوجية في بغداد، التفتت الى والدتنا، الله يرحمها، وعبرت عن استغرابها من تقبلها اقامة الشقيق في "الغربة". وأذكر جيدا أنها قالت لها: لو كان ابني لذهبت ونصبت خيمة قريبة من الجامعة لأعيش قربه.ثم تشاء الصدف المريرة أن تتوزع ذرية تلك الشقيقة، خلال مرحلة الحرب العراقية الايرانية، بين أربعة مهجرين الى ايران، وخامس بكر خلف القضبان في سجون الدولة. فكم كانت الدنيا في العراق قد تغيرت، بين "غربة" شقيقها الطالب وبين قلع أبنائها من الجذور. وكم تعقدت الظروف وقست وتبشعت.لقد راكمت الهزات السياسية، ابتداء من ثورة 1958، ظاهرة الهجرة بالتدريج حتى نمت واتسعت، الى درجة تحول معها العراق أخيرا من بلد جاذب الى طارد لأبنائه. وليت الأمر توقف عند هذه الحدود. ذلك أن ابناء البلدان العريقة في الطرد، شأن مصر ولبنان واليمن والمغرب، حافظوا على ألوان من الصلات الحيوية ببلدانهم، مثل الزيارات السنوية، والتحويلات المالية للاهل والأقارب، وشراء البيوت أو تعميرها فيها، بالاضافة الى وسائل اخرى، من شأنها تجسير الهوة بين الطرد والجذب.أما في حالنا فان تذكرة الطرد ماتزال غالبا في اتجاه واحد، هو درب الصد لا رد. فمن يهرب من الحرب ويعود اليها؟ نعم قد يحدث ذلك مع الذين تقطعت بهم السبل، وفشلوا في تدبير أمورهم في بلدان الغربة. وهؤلاء حالهم حال الذين لم يجدوا غير الأسنة مركبا. واسوأ من ذلك أن بعض ساسة المرحلة الحالية، ممن عادوا ووصلوا الى النيابة والوزارة، يتعاملون مع الوطن وكأنه محطة ترانزيت أو مرور. وهناك الأسوأ والأعجب بينهم، وهم اولئك الذين نهبوا وفروا.وقال لي صديق ثقة ان بعض شباب العراق من أبناء الذوات في عمّان صاروا "يشوفون حالهم" على بلدهم، شوفة المتكبر على الفقير المحروم. وهذا من العجب العجاب. فمن كان يتصور ان أحفاد واحد من أعظم البلدان في التاريخ يمكن أن يأنفوا منه؟وفي كل هذه الحالات والأحوال يبدو العراق مثل بحيرة جف ماؤها. كيف سار الى هذه العاقبة؟ لماذا وصلها بهذه السرعة؟ وما سر تجمده عندها؟ وهل يمكن أن نختصر الجواب بكلمة واحدة هي السياسة؟ إن مصائر البلدان أمر من الخطورة بحيث يجب أن لا تترك للساسة. ولا لأي فئة دون أخرى. فلكل مواطن سهم في مصير وطنه. فاعرفْ سهمك تستعدْ وطنك!
أحاديث شفوية:محمودي غريب على الحلة
نشر في: 8 يوليو, 2012: 08:55 م