مقال افتتاحي لجريدة العراق في عددها 705 المؤرخ 15 أيلول 1922من مدينة الحديد والبخار، الى حديقة الشعر والخيال. من موطن العمل والجد والحركة المنتجة، الى مسرح الامل والشعر والاحلام التي تتولد وتنمو وتفنى كل يوم بل كل ساعة.
جاء فيلسوف الفريكة، ابن لبنان، ونابغة العرب.وافانا من ارض كولمبس، بلاد الحرية، وربوع السلام، يحمل الى اقطار الضاد نفحة من نفحات الفكر الطلق في ذلك العالم الديمقراطي وفي حقيبته (بذور للزارعين) يريد بذرها في حقل هذا الشرق العربي المعروف بزكائه وخصبه، بعد ان عملت الثورات والانقلابات الاخيرة في تربته ما يفوق عمل الفلاح في حرث حقله وتحديد ارضه.حدثنا يا اخا العرب عن عظمة اميركة المادية ومجدها الادبي. ارو لنا عن عجائن تلك البقعة الذهبية التي كانت سجن العبودية، فغدت بفضل رسل الحرية ودعاة النور امثالك، بلد الحرية والمساواة والعدل. ولما تذوقت شهد الانعتاق، وادركت قيمة الحياة الحرة الطلقة، دفعتها مباديها الاخوية القويمة، الى السعي في تحرير العالم المقيد، وفي ضمنه شرقنا الجامد.قدمت من بلاد النشاط والسعي والحياة العاملة.فلا تعجب مما تشاهده عندنا من الايدي المغلولة عن العمل، والافكار المقيدة بالتقليد، والروح النائم. ولايروعنك الحال اذا مشيت بين هياكل بابل المائلة، وتخطيت مدائن العباسيين الدائرة، مدافن الحضارة وقبور العلم والفن والادب، بل انثر عليها من دمعك ما يمتزج بدجلة والفرات، النهرين التاريخيين اللذين لم يستطيعا ان يغسلان بامواهما الطاهرة النقية، لطخة العار التي لطخها في وجه الانسانية ظلم الانسان وجنونه.ذلك علم الغزاة والفاتحين، الذين قضوا على مدنية الجدود وقرضوا ما رفعت من صروح العلم والعرفان، واركان المجد والعمران.لكن، لا، لا،! لقددنا الزمان الذي نكفكف فيه الدموع وننهض للعمل. فابحث في مرابعنا عن الروح الراقي الذي كتب عليه ان يرقد رقدته الطويلة، فهزته النهضة العربية الحاضرة وانعشه عصر القوميات، فصار يتحفز للنهوض بل للوثوب وثبة الابطال والجبابرة.ايها الفيلسوف المفكر:انبتك لبنان الجبل الجميل، واحتضنك واديه المهيب، واوحت اليك سماؤه السحرية، بآيات الشعر، ونفخت فيك ارضه المقدسة روح الفلسفة، فهجرت الوطن بجمسك لابروحك، وركضت الى عالم الحياة والعمل، وقومك في سبات عميق اميركا عالم غريب، وزن واشعار دقات المطارق وصلصلة الحديد، وخياله دخان المعامل، وموضوع فلسفته الحياة والحركة والعمل، العمل المثمر.وبعد ان اختلطت في العالم الحي، التفت الى ارض اجدادك، حيث روحك تداعب سحب الجبل البيضاء، وامواج المتوسط الزرقاء، فراعك جمود ابناء قومك العرب، فاهبت بهم من مهاجرك البعيدة.ولعلمك بانهم قوم احساسيون عائشون بالاحلام والخيالات خاطبتهم بما يفهمون وابتدعت لهم ذلك البيان العصري السلس في اسلوبك الممتاز وشعرك المنثور.انت تعلم ان الطفل المريض ينفر من الدواء ويحسبه السم الذعاف، وتعلم ان الشرق طفل في نهشته الحديثة، لذلك نراك سكبت دواءك في زجاجات بلورية جميلة، شفت عن الوان بديعة، فاشتهته النفوس وتشربته الارواح.ولم تقتصر خدمتك على ابناء قومك، بل اردت تعزيز اسمهم لدى الغربيين وتبيان مقام اسلافك العرب الصيد عندهم.فترجمت بما اوتيت من بيان خلال في اللغتين رباعيات نابغة المعرة ولزومياته الى لغة السكون، فاطلعت الاقوام الغربية على قريحة العربي وعقليته السامية، وجمعت بعملك فلسفة الشرق بفلسفة الغرب.فاكبرك العالم الغربي، واكبر اكثر من ذلك امة احببتك وادمغة عربية، اتت بمعجزات الفلسفة وبدائع الادب.ولانخالك قد اكملت شوطك، اذ الواجب عليك اليوم ان تنظم رباعيات النهضة القومية الحاضرة، وتنقل الى اصحاب العقول الكبيرة والقلوب الواعية من الغربيين، مالقيته وتلقاه في ارض الفراعنة واغوار الجزيرة السعيدة وانجادها ووادي الفراتين وسهول سورية واعالي لبنان، من آثار اليقظة وبوادر الانتعاش ثم ارجع ببصرك الى عالم الضاد وناجه ببيانك الوضاح، وبلاغتك الساحرة، مظهرا له وقفت عليه من مواطن الوهن فيه.ياابن سورية الحسناء.اذا رأيت العراقيين يحتفون بك ويبالغون في اكرامك، فلا تحسبن انهم يكرمون عقلك وقلبك فحسب، كلا، انهم فوق ذلك يكرمون طينتك، اذ انت الشقيق العربي ابن الشقيقة سورية، والعراق اخو البلدان العربية كلها، ينزع الى استرجاع ذلك المجد الخالي، ولا يرى انه يبلغ مرامه بغير الاتحاد والاجتماع، فاذا بلغت ديار اهلك، ووقفت على ساحل المتوسط في مدينة العلم والادب بيروت او عاصمة المجد الاموي وصعدت الجبل الشامخ ولامست ذروة صنين فحي عنا سورية، سورية الكبيرة، والق على تلك الربوع النضرة بسمة، هي عاطفة العراق العربي نحو شقيقته سورية العربية.وسلام عليك يانابغة العرب، وألف تحية..
الى الريحاني
نشر في: 16 أكتوبر, 2009: 04:16 م