TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > أحاديث شفوية:شيء عن مواهب الزمن

أحاديث شفوية:شيء عن مواهب الزمن

نشر في: 9 يوليو, 2012: 06:05 م

 احمد المهنا هل العبقرية ظاهرة فردية أم اجتماعية؟ هل يعود الإبداع الى موهبة فردية أم الى شروط اجتماعية هي التي تنتج مواهب الأفراد؟ هل الإنسان الفرد هو الذي يفكر ويشعر ويؤلف ويكتشف ويعزف ويغني ويرسم وينحت أم أن "الزمن" هو الذي يفعل كل ذلك؟
إن علماء الطبيعة والتكنولوجيا لا يوجدون في بيئات صحراوية. والنحاتون لا يعيشون في القرى. والروائيون لا يبدعون في مضائف العشائر. والمفكرون لا يولدون في عوالم الخوف. والحناجر لا تصدح بأجمل الأصوات عندما يسود الظلام. والأدب لا يسمو عندما تنحدر الأخلاق. هناك بيئة صحية فيها هياكل تعليم حي متطور، وانتاج صناعي، ومختبرات علمية، تسمح بظهور العلماء، وتطوير ملكاتهم، ودعم مجهوداتهم، ومؤسسات لمكافأة ابتكاراتهم، وأسواق لشراء اكتشافاتهم ومخترعاتهم. هناك "مجتمع علمي" صغير يعيش وسط المجتمع الكبير، وظيفته رعاية العلوم الصرفة والطبيعية والتكنولوجية، بهدف فهم الطبيعة والسيطرة عليها، وإنتاج الأدوات الكفيلة بتحسين حياة الإنسان.المجتمع الكبير يشكل المجتمع العلمي الصغير. المجتمع الصغير يصنع العلماء. العلماء ينتجون العلم. زمن علمي متكامل يبحث ويراكم الفهم ويكتشف ويخترع. والعلماء هم أدواته. وهؤلاء مثل كل الناس، متفاوتون في الذكاء والإرادة والكفاءة، فيتقدم بعضهم على البعض الآخر. هذا يبرع إلى درجة نيل جائزة نوبل. وذاك يراوح في حدود لا يتجاوزها. إنهم أفراد يتولى "الزمن" من خلالهم بناء صرح العلم. "الزمن" هو العالِم، المكتشف، المخترع، والعلماء أدواته. أدواته الواعية، الحية، المفكرة، الباحثة، المجتهدة.في ضربة من ضربات الزمن الإبداعية الفريدة، تنشب ثورة الشعر الحديث في العراق، وتنتج السياب ونازك الملائكة ومحمود البريكان وبلند الحيدري والبياتي. كان ثمة خفقة قلب صحية في جسم العراق، وكان ثمة تراكم سليم في تجربة بناء دولة حديثة، وكان ثمة تطلع أصيل إلى الانتساب لعضوية الدنيا الجديدة. فكانت تلك الثورة الشعرية أداة من ادوات ذلك الزمن الحي في التعبير عن نفسه.ومع الانحسار التدريجي لنبضة الحياة الصحية في قلب العراق صار بإمكان قلة الأدب نفسها أن تعد شيئا من الأدب. ومع هذا التدهور بدت تلك "النبضة"، أو "الصحوة"، أو "النهضة"، كما لو أنها مشروع إقامة مملكة قبل ظهور المدينة في التاريخ. والملوك نتاج المدن. فلم يكن هناك في التاريخ ملوك عندما لم تكن هناك مدن. لكأن ثورة الشعر الحديث في العراق، وكل الزمن الذي وقف خلفها، كان ضربا إبداعيا من ضروب مقاومة المستحيل.وفي زمن ليس بالبعيد كان طه حسين يشكك بمسلّمة الأدب الجاهلي، وعلي عبد الرازق يهز مسلّمات الدين والسياسة، وأحمد شوقي يكتشف محمد عبد الوهاب، وجحافل صوت أم كلثوم تتحرك من أقاصي القرى نحو المدن، وتتوج ملكة على الذائقة العربية. إن كل هذه القامات الكبيرة إنما هي أدوات زمن أكبر منها، الزمن الموهوب منتج المواهب، زمن النهضة.ورغم اتساع الشقة بين زمن النهضة وبين زمننا الحالي، فإن الأول هو الذي سينعى الثاني يوما. فأمس النهضة أشبه بكائن حي بينما الحاضر أشبه بكائن يحتضر. وفي التاريخ تعد النهضة هي "المثال" أو النموذج، والكبوة هي سيرة التراجع عنه. و"المثال"، أن كان زمنا أو شخصا أو عملا، حي لا يموت. ومهما تصاعدت أهواء الموت فلأشواق الحياة سلطان أقوى. إن الحي أبقى من الميت كما يقولون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram