عواد ناصر أعرف، يا صديقي الرسام، مقدار أساك الذي لم تستوعبه اللوحة، فكتبته على شكل قصيدة عنوانها "البهجة" وتلك مفارقة أولى تضعنا معاً عند مكاشفات الروح وتستفز فينا كبرياء العراقي الذي يبقى، إلى أبد الآبدين، يفتش عن منفذ لدموع لا تجد منفذاً.
أشكرك لأنك خصصتني بهذه القصيدة، قصيدة، قصيدتك، التي لم تفاجئني، فأنا أدرك، بحساسيتي الشخصية، لا بحصافتي النقدية، بأنك تجيد كتابة الشعر، لا معرفته، أكثر من كثير من الشعراء الذين نضحك عليهم وعلى قصائدهم، ولنا تحويرات وإعادة صياغات لقصائد شهيرة تحولت على أيدينا إلى فكاهة، فكاهة لا غير.. ألم "تحوّر، أنت، سطر سعدي يوسف: نبيٌّ يقاسمني شقتي" إلى "غبيٍّ يقاسمني شقتي" وتقصد بالغبيّ شخصاً آخر غيركما؟قصيدتك هذه "نفثة" غضب جاءت هاربة من اللوحة التشكيلية إلى النص المكتوب تستجير بمن يفهم ويعي معنى الحزن الذي فضلت أن تستعير له مفردة "أسى" وهي أكثر قدرة على تحويل الشعور إلى معناه اللغوي.خسارتك، كما جاءت في قصيدتك، هي ربح فني كما تملي أنانيتي، شاعراً، وأعتذر منك على هذه الأنانية الفنية، ففي لحظات الأسى الشخصي لا يجوز أن نحيل المشاعر إلى نقد، ولكنها "نزوة" الكتابة التي تزيح فرديتنا، أحياناً، لتتمظهر فينا "إرادة" الناقد الحصيف.هي مفارقة أن تضع عنواناً لقصيدة مفعمة بـ"الأسى" هو "البهجة" ولأنني أعرفك ساخراً حاذقاً، فها أنت تسخر من نفسك، ومني أيضاً!أنت تبدأ هكذا: "سنقتسم البهجة/ تفاحة النور/ ومتعة الحليب على الأصابع/ لا نقتسم النور ولا النظر/ وليس القمر بكل تأكيد/ هل نتقاسم الهاوية المريعة التي ورائي/ هل نتقاسم فرحي/ أم درب السديم هذا؟". ولا أظنّ مفتتحك سوى فخٍّ، مثل فخاخك العديدة التي تنصبها لأصدقائك ولا أصدقائك، حتى تدخلنا، كلينا، في لجة الأسى، أساك، وهو أساي، وربما أسانا الجمعي:"اهدأ قليلا، أنت تخربط فوضاي/ وتعبث بهذا العذاب المنثور كما حب الرمان/ على غيمة الحرير/ اهدأ، فهذا الارتباك المنسوج من أصابعي/ هو نعمة مساء الندم هذا".هاأنذا اكتشفت فخّك فاجتنبته كي لا أقع في حبائل خسارتك وحزنك وندمك، غير أن حساب الخسائر لن يفيدنا، يا صديقي، سوى ما يجعل المكان مناسبة شخصية لتفقد الحاجيات الضرورية للروح.. على أن هذا المكان رغم تلاشيه بسبب عاديات عدّة أربأ بنصي أن يبتذل بذكرها، ويبتل معك في رطوبة البحر، فلتبتل وحدك، لأنني شبعت غرقاً:"إني أشم رطوبة البحر الصاعدة من الجنوب/ أشم زناخة الميناء القديم/ وأرى نخلاً يمشي/ أهي علامات الذهاب اذن/ أهي صافرة الموت؟".كما أرى هو المكان القديم، حتى لو كان ميناءً، وقد احتضن دهشتك/ دهشتي القديمة التي نادراً ما تعاودنا هذه الأيام، فزماننا يفتقد الدهشة، حتى لو كانت على شكل قميص مغسول ومكوي، مفعم برائحة الصابون.إن إشاراتك الخائفة بشأن الموت تراودني أنا، أيضاً، لكنني أعيشها كل صباح أفيق فيه فأتفقد أعضائي وأجس قلبي لأتأكد من نبضه الباقي، فأشعر بالسعادة لأنني لم أزل على قيد الحياة، أو ينتابني الضجر لأنني عشت أكثر من نصف قرن، بعقد من السنوات، وهذا كثير في حساب حياة الشعراء الشغوفين بالموت المبكر.هناك حيث جلست أمي ذات غروب/ مرة قبل ثلاثين سنة/ تراقب الأفق وتعدد الخسارات/ ها هي تقوم من جلستها الآن/ تلامس بيديها الكليلتين/ سعفة جرفها المد/ وكأنها تمس دمعة/ أهي علامة الموت، إذن؟".شكرا صديقي الرسام على قصيدتك، شكراً، يا يوسف الناصر.
حرف علّة: صديقي الرسام شاعراً
نشر في: 9 يوليو, 2012: 06:14 م