د. فاضل سوداني حتمت موهبة المخرج المسرحي الروسي فيسفولد ميرهولد (1874 ـــ1940) والذي كان شاباً آنذاك ترشيحه للعمل في فرقة مسرح موسكو الفني بعد تأسيسها مباشرة من قبل كونستنتين ستانسلافسكي ونميروفتش دانجنكو .
ولكن عمل مايرهولد لمدة أربع سنوات في هذه الفرقة وتعرفه على المنهج الطبيعي ومفهوم أستاذيه للمنهج الواقعي في المسرح يناقض ما كان يملكه من أفكار جديدة متمردة ما أدى الى الخلاف بينه وبينهما . ولكن هذه السنوات منحته إمكانية تعلم الجوهري في المسرح من ستانسلافسكي وتشيخوف ، فقد تعلم من الأول الأداء على خشبة المسرح ، ومن الثاني العلاقة الجدلية بين الحياة والفن . وتعتبر سنوات العشرينات أهم مرحلة في حياة وأعمال ميرهولد نتيجة لفسحة الحرية التي منحتها الثورة ، فأسس مسرحه وطرح أفكاره من خلال نظريته في البيوميكانيك لتطوير عمل الممثل ما دفعه للبحث عن ممثل المستقبل كمصطلح جديد لتدريبه وإعداده.إن معظم أفكار مايرهولد حول التركيبية/ الإنشائية أو البيوميكانيكا ، تصب في مفاهيم السميولوجيا المعاصرة والمستقبلية، ولهذا أتهم آنذاك بالتجريدية ــ الشكلانية مما يفسر لنا صعوبة العلاقة بين الفنان والسياسي.ونتيجة لغنى وتنوع أفكاره كان يحّول أي نص كلاسيكي إلى عرض تجريبي متفرد. من هنا جاء حقد معاصريه عليه فدفعوا ستالين للتخلص منه بتهم جاهزة (كالعمالة للأجنبي ، التجسس لليابان وبريطانيا والتعاون مع تروتسكي) واتهامات مهنية حاقدة كونه فنانا رمزيا أو مثاليا، وان مسرحه لا ينسجم مع الثورة ولا يخدم الشعب . والحقيقة عكس هذا تماما حيث كان الجمهور يتزاحم لحضور عرضه المسرحي ( الحفلة التنكرية ) بعد أن عرضت 500 مرة .وعندما حدجته العين السرية الصفراء لمخابرات ستالين ووضعته في شبكيتها لم ينقذ مايرهولد حتى اعترافه بأخطائه ونكرانه لأعماله السابقة واعتبارها أخطاء في الفكر ولا تنسجم مع المرحلة الستالينية ، وطالب بما يشبه العطف المذل في السماح له وللسينمائي آيزنشتين والموسيقار شستاكوفيتش في مواصلة أعمالهم من اجل تصحيح أخطائهم في المستقبل .وبعد اتهام مايرهولد ، الغي تراثه وعروضه المسرحية (التي كانت مستمرة أثناء ذلك) . وأغلق مسرحه في 1938 بالرغم من أن الضغط الشديد على الفنان بدأ منذ عام 1927 ، وحورب بشدة بعد أن فرض ما يسمى بالواقعية الاشتراكية كمنهج موحد ومفروض وشملت هذه السياسة الكثير من الكتاب الطليعيين والمستقبليين مثل بوريس بلنياك وأيساك بابل وباسترناك وغيرهم.وعندما اعتقل دافعت عنه زوجته الممثلة زينادا رايخ بكتابة رسالة معنونة إلى ستالين وقالت له بان اعتقال فنان شيوعي مثل مايرهولد خطأ جسيم ، فكان رده سريعا حيث قطعوا جسدها بسبع عشرة طعنة سكين ، أما شقة مايرهولد فقد استولى عليها رئس المخابرات الستالينية بيريا ليقضي فيها لياليه الحمراء .وحرمّت أفكار مايرهولد وحتى ذكر اسمه قرابة نصف قرن. واستطاع ايزنشتين بغفلة من مخابرات ستالين ان ينقذ تراث مايرهولد الورقي والبصري فنقله الى مكان سري . في أحد السجون السرية أعدم مايرهولد سنة 1940 بتهمة العداء للاتحاد السوفييتي ، وهذا يذكرنا بما كتبه اليكساندر بلوك (نَهْرُ الثورة الجارف يُدمّر /آمالكيُدمّر أحلامك / يحمل في طيّاته الكثير من / الوحل والقذارة./ لكن أنصت إلى ما يقوله:/ فدويّه يَعِدُ بما هو أكبرْ) .ويؤكد الكثير من الباحثين الأوربيين أن برشت أضاف الكثير من مكتشفات مايرهولد الفنية إلى مسرحه الملحمي بما فيه مبدأ التغريب ، ومن هنا فان مايرهولد يسبق برشت بعشر سنوات في هذه التجربة . لذا فإن الغرب وأوربا يعدون مايرهولد الآن مخرج المستقبل لذا أعطوا أهمية خاصة لدراسة تجاربه فكتبوا عنه وترجموا جميع كتبه وأفكاره .وكل هذا يذكرني بالريبة التي تمارس ضد الفنان العراقي وتهميشه وإهمال المسرح والفن في العراق واعتبارها شيئا ثانويا خارج حياة الإنسان.
توهج الذاكرة..الذاكرة الصفراء لستالين
نشر في: 9 يوليو, 2012: 06:20 م