اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > طالب القره غولي...تعود به (حن وانه حن) إلى الغازية وحيداً

طالب القره غولي...تعود به (حن وانه حن) إلى الغازية وحيداً

نشر في: 9 يوليو, 2012: 07:55 م

د.جمال العتابي      الغازية* ، قرية أثيرة لا تبتعد عن الغراف ، إنها متشبثة فيه ، بأشجار الصفصاف وأزهار الدفلى ، وعروق حبات السعد ، لا تبتعد عن التاريخ ، فآثار سومر ، تحيط بها ، وتلال لكش على مقربة منها ، تبدو كغيوم باهتة تطل عليها من جهة الشرق ، ونخيل (قراغول) من بستان الحاج شكبان ، تنحني على الضفة اليسرى من النهر مثل شعر فتاة معطر بالحناء، والطين خاوة.
الغراف لا يبدو حاد المزاج، يجري بهدوء، يحفل بالقوارب القادمة من الجنوب تحمل التمر المطبوخ ، والحبوب ، الإنسان يتحدى التيار، يصعد نحو الشمال بصلابة ذراعه وصبره، انه مثل للقوة المتدفقة في الأنهار على مر العصور.طالب القره غولي يعود لهذا المنبت.. إلى الجذور تلك وهو مشدوداً إليها.. لم يغادرها .. حاضرة في عقله ووجدانه وقلبه ، بعد رحيل عنها لعشرات السنين . بعودته كليلاً ، وحيدا .. يحيلني طالب لتذكر أيام طفولتي الأولى، فأشاركه الشعور بالحنين إلى تلك الضفاف المنبسطة ، أمام مدرسة البنات التي شغلت بناية قديمة لماكنة الطحين ، إنها المرة الأولى التي يتدافع فيها الآباء يتسابقون لتسجيل بناتهم في المدرسة ، يتعلمن القراءة الخلدونية على يد معلم ، وضع أهالي الغازية ثقتهم فيه ، ليرعى بناتهم اللواتي أصبحن صبايا ناضجات، يعلمهن أولى الحروف، ودرس الحساب والواجبات الأخلاقية، والأشياء والصحة والرسم والرياضة، انه المعلم، والمدير والمربي بآن واحد.. لا شك في أن ذاكرة أبناء المدينة تختزن لهذا الطراز من المربين أثرهم الايجابي في تربية الأبناء، وأنا واحد من هؤلاء الأبناء الذين يفخرون بهذا المعلم الذي كان والدي.في الشارع المحاذي لمدرسة البنات، في بيت طيني منه، يتسلل طالب بن بريد (القرة غولي في ما بعد) وقت الأصيل نحو تلك الضفاف، مخفيا نايه، (آلته الموسيقية الوحيدة) تحت ثيابه، في وقت تخلو الشوارع المتربة من المارة، إلا من كلاب تعوي، وفوانيس شاحبة معلقة على جدران متآكلة بفعل الريح والمطر، جدران أدركت قهرها منذ زمن بعيد.. يحيط بطالب ثلة من أصدقائه.. ليبدأ الأنين بعزف على الناي فيأتي الصوت مثل مطر ناعم.. ينثال مثل الزهر، غير آبه إلا لغناء صديق يطلق صوته بغناء جذل لحضيري أبو عزيز أو داخل حسن.. فيلتحم الزمان بالمكان، وتغدو الحياة في نظر أي منا أجمل وأمتع، وهو يمارس دور الساحر.     شيوخ المدينة، يراقبون طالب بحذر وإمتاع.. لكنهم يخفون إعجابهم بهذا الغريد الشاب. ويتهامسون الحديث في مقهيين وحيدين لمحمد المدهوش ومحمد الجودة. إن طالب لا عمل له سوى (التموصل) .. نسبة إلى (الماصول) وهي تسمية محلية للناي .. لكن لم يدر بخلدهم ذات مرة إن هذا (المموصل) ، كان يوقد في ذاته مسارج ألحانه، من عالم هؤلاء ، عالمه هو ، بيئته ، ومحيطه وأحلامه .. ولو كان بمقدورهم أن ينتبهوا لموهبته ... لكان لهم كلام آخر لقد أخذت الغازية منه، والناصرية في ما بعد ، مقاما حميما في تجربته إلى درجة الهوس ، لارتباط الحميمية بعالم القرية (مائها، أهلها، وداعتها، بيوتها، الوافدين لها من القرى المجاورة) .. إذ تمثل فيها الدف والنقاء والألفة والعطاء والمحبة ، وكل ما هو أصيل ورائع.     أيام الطفولة التي أتذكرها ترصد العالم بعيني الاندهاش ، والالتذاذ معا ، إنها تشكل بواكير الوعي بالذات وبالآخر من حولنا ، ترغمنا على الالتفات إليها ، إنها ليست في الرجوع إلى القرية ، إنما هي تعبير عن مخزون الذاكرة ، لا بلغة الماضي ، وإنما بلغة العصر وأدواته المتقدمة.     لم ندخل عصر الانقلابات بعد ، ولا التطاحن السياسي والصراعات . كانت الحياة في القرية بسيطة عفوية لكنها ثرية عريضة ، برموز متواضعة تمثل حقيقتنا الزمنية القاهرة التي نحيا داخل أسوارها العجيبة ، لا تفتأ حتى تحتمي في إبداعات طالب .. كنا نرى القرية فردوسا لا نظير له في الجمال .. بضعة بيوت مشيدة من الآجر الملون كنا نعدها قصورا شامخة (قصر ارزيج ، وقصر عبد الحسن عيسى) ، واسطة نقل وحيدة برحلة يومية نحو الشطرة مصنوعة من الخشب .. يحشر فيها (الاوادم) مثل الأغنام ، ويعتلي سطحها ركاب آخرون يجدون متعة في التراب الذي يحيلهم إلى كائنات خرجت توا من دائرة القبور.. رجال ملثمون كالطوارق ، قادمون من الصحراء ، وعائدون إليها.     يشهد طالب الفنان امتداد ذاته عبر هذه المشاهد اليومية.. مرة اثر أخرى .. ويتكرر مشهد السيد ظاهر، وبستان جويسم وقناطر المناعية، والنعومية، والفرهة، والطبكة، وصوت عبد الواحد الهلالي، الشجي الحزين، وهو يروي قصة واقعة الطف يوم العاشر من عاشوراء. وصوت الشيخ مرتضى الوائلي.. في مجالسه الحسينية.. ومواكب زفاف شباب أبناء القرية، و(اللوكسات) المضيئة المحمولة على الأكتاف، وصبري فرج مدير المدرسة الفنان الأسمر ورحيم الكتل، وأبناء الحاج طاهر، ومحمود جوار العكيلي.هو الامتداد عبر هذه العروق الإنسانية. الذي ولد الضوء والتوق للمجهول.. والتوهج ..     كانت الرحلة تبدأ من هنا، حيث كل الطاقات المحبوسة ، وراء الأقفاص . الينبوع الذي نهل منه القره غولي سخاءه الفني ، مفصحا عن تجلياته وفيوضه اللحنية الجديدة . إنها الإشارة ال

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram