سرمد الطائيلا أريد أن أحدثكم عن ذعر انتابني قبل شهرين حين سمعت فجرا، صوت لص في حديقة المنزل. ولن اقول الكثير عن ردة فعلي البلهاء حين رأيته في باحة البيت. لقد كدت أن اسأل اللص: ماذا تريد؟ لن افشي لكم ما حصل بعد ذلك، لكنني اتذكر دفعة واحدة، نماذج لحالات الخوف والهلع التي انتابتني خلال الاعوام الثلاثين الماضية، وأتذكر نهايات نماذج الذعر تلك والتي أعقبها حلول السلام في نفسي ثانية.
الذعر الأول ساذج يعتري عديم الخبرة وقد دهمني في عامي السادس. يومها تعرضت للإصابة بنوع من الحساسية وأمر الطبيب لي بمرهم على الجلد. الطبيب قال دون ان يقصد ترويعا: إياك أن تتناول الطعام وعلى يدك شيء من هذا الدهن وإلا فستواجه خطر الموت!عدنا إلى المنزل ووضعت الوالدة المرهم على يدي، وبعدها بثوان قفزت إلى سلة فواكه ورحت أنتقي وألتهم، ثم انتبهت الى تحذير الطبيب، "بعد فوات الاوان". هل سأموت؟ ظللت اسأل نفسي بشأن اول تحذير من نوعه اتلقاه في حياتي، وجاءني الجواب على شكل طعم مر ولاذع جدا، هو طعم الدواء الذي تسلل الى فمي مع الفاكهة، فأيقنت عندها ان الموت قادم لا محالة، وهل يمكن ان يكذب الطبيب؟ حينئذ قررت كأي "فارس خيالي ساذج"، ان لا اموت حتف انفي امام العائلة، فصعدت الى سطح الدار وانزويت لوحدي ورحت اتكلم مع الله. كانت اول مناسبة لتأمل معنى الموت وأول مناسبة ربما للحديث مع الله. رحت اقول بحرقة من سيموت بعد لحظات: يا الهي لقد اخطأت بمخالفة وصية الطبيب لكن ليس من العدل يا رب، ان اموت في هذا العمر! وحين واصلت التهام الفاكهة التي ظلت بيدي (كآخر نشاط في حياتي المهددة)، بدأ يختفي الطعم المر اي طعم الدواء او طعم الموت. عندها انتابني فرح عارم وأدركت ان الرب "اقتنع بحجتي"، فليس من العدل ان اموت وأنا طفل. نزلت بزهو الى العائلة وانتهى ابرز خوف من الموت جربته في الطفولة.لكن هذا النوع من المخاوف صار نسيا منسيا بعد المرور بتجارب القصف المدفعي الرهيب خلال حرب الثمانينات، فبعد عامين من تجربة "مرهم الحساسية" كان الإيرانيون في الشلامجة والفاو على مرمى حجر من دارنا، وكنا نرى الموت بشكل يومي، ينتابنا الذعر دون سبب وجيه، ويتلاشى الذعر دون سبب وجيه أيضا.الطفولة المليئة برعب المراهم الطبية والقذائف العمياء، انتهت بمفخخات العراق الرهيبة. وكنت بين آلاف العراقيين الذين واجهوا خطر الموت مرات عدة. الشاحنة المفخخة التي انفجرت بين فندقي شيراتون وميرديان في بغداد نهاية 2005، تناثرت اوصالها على رأسي ورؤوس عدد من الاصدقاء وقت الغروب. ومنذ ذلك التاريخ هجرت العراق وعدت إليه مرتين، لكن الخوف من المفخخات ظل يرعبني كلما مررت بشارع عراقي، وتحول الى مرض حقيقي ظل الاصدقاء يلاحظونه بضع سنوات، وكنت اقول لهم ان مفخخة الميريديان حولتني الى جبان، فالموتى يرحلون إلى الأبد ومن يبقى حيا يظل حبيس الذعر حتى إشعار آخر.والهلع هذا لم ينته إلا يوم نظمنا اعتصاما في ساحة الفردوس صيف 2010، احتجاجا على حظر التجوال وانتشار القمامة وانهيار الطاقة وخرقنا الحظر الليلي بالموسيقى. بقينا 9 أيام مقيمين في الساحة وحولنا تمر ملايين السيارات، وكلما رمقت سيارة حسبتها لشدة هلعي، مفخخة جاءت كي تقتلنا الى جوار المكان نفسه الذي شهد تفجير شاحنة الميريديان. حين انتهى الاعتصام سألني احدهم: ما هو منجز هذا التحشيد؟ فأجبت خالطا الجد بالهزل: لقد انتهى خوفي من السيارات وعدت أنسانا نصف طبيعي مرة أخرى! سيارات بغداد لم تعد ترعبني وساحة الفردوس التي ضخمت الخوف في داخلي عام 2005، هي التي أعادت إلي رباطة جأشي في 2010.لكن الخوف تجربة متواصلة تعتري معظم أهل العراق ولا سيما مناطقه الساخنة، دون أن تكون بالضرورة هلعا بالمستوى الذي حصل معي. ونحن نتكيف مع الهلع، كما تكيفت أنا مع لص الدار الذي رحل بسلام دون تفسير واضح.وأحسن جملة في ردع الخوف لاحظتها وسط حربنا الأهلية، وردت في فيلم "ابوكاليبتو" لمخرجه الأمريكي ميل غيبسون عام 2007. الأب زعيم القبيلة يتعرض لغزو شنيع، ويجري ذبحه أمام أولاده. آخر كلمة يقولها لهم: أبنائي، لا تخافوا. تخلصوا من الخوف بأي ثمن. الخوف مرض، ولكل مرض دواء.
عالم آخر: نهايات الخوف ونصيحة من السينما
نشر في: 9 يوليو, 2012: 08:57 م