هاشم العقابيما عدت أكره شيئا بشدة مثلما اكره هؤلاء الانتحاريين القتلة أينما فجروا أنفسهم بالعراق او خارجه. ما أتعسها من فكرة حقيرة فكرة "الانتحاري" هذه. لعن الله من فكر بها أو اخترعها ليحرم الناس من الحياة ويسوّد أيامهم ولياليهم.
مع هذا يبقى من الطبيعي أن تفزعني التفجيرات وتحزنني أكثر لو حدثت بالعراق، لأني عراقي أولا وأخيرا. كذلك من الطبيعي أن يصبح وقع الحزن والألم عليّ اشدّ لو طالت التفجيرات أماكن عراقية اعرفها ولي فيها ذكريات خاصة. وهذا طبع بشري لا يمكن أن أستثني نفسي منه. فموت أخيك يبقى اشد وقعا عليك، وان كان موت أي إنسان يحزنك أيضا. وهكذا كان خبر التفجيرات التي حدثت بناحية الزبيدية يوم الأربعاء الفائت كخنجر نبت في أضلعي. انها مدينة طفولتي وصباي التي أحسست بأن النار التي أحرقتها قد حرقت لعبي ودفاتري وأقلامي وذكرياتي كلها.وإن كانت مدننا العراقية تحمل صفات مشتركة كثيرة، لكن تبقى لكل مدينة بصمات إبهام خاصة لا يعرفها إلا من عاشوا فيها طفولتهم. من بين أهم ما يميز الزبيدية هو أني لم اجد مدينة مثلها، من بين المدن الكثيرة التي عشت فيها بعدها يتكافل أهلها اجتماعيا في أيام الحزن والفرح. فان مات فيها احد تغلق كل محال السوق أبوابها. وان تزوج احد أبنائها تجد الشوارع والبيوت كلها تشارك في الفرح. كان كل شيء فيها يدعو للفرح إلى أن حل يوم 8 شباط الأسود عام 1963 ففاحت فيها روائح الدم والقتل بشكل لم نعرفه من قبل. أول حادثة رعب فتحت عيني عليها لأول مرة بحياتي، كانت جريمة قتل المرحوم ماجد محمد أمين بعد أيام قليلة من الانقلاب البعثي المشؤوم. منذ ذلك اليوم صمتت كل بيوت الزبيدية وشوارعها صمتا رهيبا بعد أن أعلن "نوري أبو فج"، وهو معلم ليس من أهل المدينة وأصبح حارسا قوميا، نبأ قتل ماجد من مكبرة الصوت في الجامع. ظلت المدينة حزينة صامتة، ولم تستعد حياتها إلا في يوم سقوط البعث بعد تسعة أشهر من العذاب. لم يصادفني بالزبيدية شحاذا ولا فقيرا معدما. إنها مدينة التكافل الاجتماعي بامتياز. فعلوة السيد يحيى العوادي، مثلا، كانت مفتوحة تجهز المعوزين بما يحتاجونه من مواد غذائية من دون بطاقة تموينية أو منة منه على احد. ليس هو فقط، بل كان اغلب اصحاب الدكاكين هكذا. كان سوقها سوقا للخير اكثر مما هو للتجارة. انه السوق ذاته الذي فجره القتلة قبل أيام. قطعا انهم يعرفونه جيدا فاستهدفوه. وهل هناك من هو اقدر منهم على استكشاف منابع الخير لتدميرها؟آه كم هي الحسرة كبيرة في صدري يا مدينة ذكرياتي العزيزة والطويلة التي آمل ان يسعفني العمر لأكتبها يوما. فيا مدينة العشاق التي فيك قرأت أول كتاب واهدتني فيك أول بنت وردة جوري بحياتي، إني عاجز أن أقول فيك ما يرفع عنك الحزن والأسى. وها أنا لا استطيع غير أن افعل كما فعل الحاج حسين الزبيدي الذي حين رأى سوقك تحترق وأجساد أبنائك تتمزق بكى مرددا: إنا لله.وأنت أيها العراق: أما آن الأوان أن يمن عليك القدر بحكومة تعرف كيف تحميك مثلما تحمي كراسيها؟ أم أنك ستقول، أيضا، إنا لله!
سلاما ياعراق : الزبيدية.. اسم الله
نشر في: 13 يوليو, 2012: 07:49 م