علي حسينربما يحتاج كثير من كتاب هذه الأيام أن يقرأوا كتابات الراحليْن عبد الجبار وهبي "أبو سعيد"، وشمران الياسري "أبو كاطع"، ليعرفوا كيف يمكن للكلمات أن تكون مهنية ومحترمة، فقبل عقود من هذا التاريخ كان العراقيون ينتظرون صراحة أبو كاطع على الأرصفة لينطلقوا معها وبها في سحر ونقاوة الكلمة.
كانت الناس تعرف أن كتّابها المفضلون لم يطأطئوا رؤوسهم لمسؤول أو منصب أو منفعة، فقد كانوا أوفياءً لما يكتبون، قابضين على جمر مبادئهم، مكرسين حياتهم للكلمة النظيفة المتجردة من كل غرض أو منفعة.. ولم تقف صحفهم على أبواب الحكام تستجدي العطف والرضا والمنح.. يعرف كل من درس تاريخ الصحافة العراقية كيف عمل الرعيل الأول من الصحفيين على أن تكون هذه المهنة منضبطة وراقية، والأهم مهذبة بعباراتها وجملها.. ولهذا نادراً ما نجد عند كتّاب الأعمدة البارزين، كلمة تجاوزت في حدتها أو أن نقداً يجرح أو يدمي.. لكننا نجد نقداً يزعج ويبصر الناس ويكشف الحقائق بوضوح.. كان متاحاً أمام عبد الجبار وهبي وشمران الياسري ومعهم سعود الناصري وعبد العزيز بركات وسلوى زكو وغيرهم من أحرار الكلمة، أن يعيشوا في أمان واطمئنان وأن يحصلوا على أعلى المناصب فقط لو منحوا ضميرهم إجازة دائمة.. غير أنهم كانوا عصيين على الإغراء، مترفعين عن استجداء السلطة، مدركين بحسهم المهني والإنساني الشديد الوطنية والنقاء أن مملكتهم الحقيقية ليست مع السلطة وإنما مع قرّاء يشاركونهم الحلم بوطن أكثر بهاءً وجمالاً... اليوم حين أستذكر مآثر هؤلاء الكبار أنظر حولي لأرى الصحافة العراقية، وقد امتلأت بمتسوّلين يطالبون ولو بربع فرصة لإظهار مهاراتهم في الانتهازية من اجل الاقتراب من جيب المسؤولين. لا نملك أحياناً إلا احترام البعض من الإعلاميين بشأن مواقفهم الواضحة في تأييد جهة سياسية ما، حتى لو اختلفنا معها، لكن لا يمكن احترام مجموعة من الطفيليين بدأت أعدادهم تتزايد، وصورتهم تتضح يوماً بعد يوم، يغيرون مواقفهم كل لحظة، منتجين لنا حالة من الإسفاف، تجعل المشهد الإعلامي أشبه بسيرك يعج بكل أشكال التسلية. إن بعض ما نقرأه هذه الأيام يدفعنا للإحساس بالخوف على مهنة الإعلام، من الذين لا يعرفون أن ممارسة الحرية تعني بالدرجة الأولى حرية الضمير، وان الرأي يعني شراكة حتى مع الذين نختلف معهم، وأن الشجاعة يجب أن تحصن بمستوى أخلاقي غير قابل للسقوط. اليوم نقرأ لبعض جهلة الإعلام ممن اعتقدوا أن الكتابة تعني حشواً من المفردات، تطعّم بكلمات بذيئة، مع بيتين من السجع الرخيص ليمارسوا من خلالها استئساداً وجسارة مصطنعة في الهجوم على كل صوت يختلف مع الحكومة، وأزعم أن ما يمارسه البعض اليوم لا يختلف عن تلك الأساليب الإعلامية التي كانت تهلل وتكبر في ما مضى لكل قرارات "القائد الضرورة". قبل أيام وقعت عيني على إحدى الصحف المجانية ممن تعتاش على فضلات المسؤولين، فقرأتُ في صفحتها الأولى عنواناً لعمود صحفي لا أستطيع أن أكتب كلماته لما احتواه من إسفاف وابتذال.. ورغم أنني لا أطيق "النائبة" التي كتب عنها العمود الصحفي، وأعتبرها هي وزملاء لها جزءاً من المشكلة التي نعيشها، ولكنني تعاطفت معها وأنا أقرأ سيل الكلمات البذيئة التي احتواها المقال، وتساءلت مع نفسي هل حقاً هذه مقالة صحفية يمكن ان تقرأها فتاة أو شاب أو احد أفراد العائلة؟! وإذا كان من الممكن التغاضي عن فوضى الإعلام فإنه لا يمكن أن نقف متفرجين على مجموعة من السذج والأميين ينصبون يوزعون على الناس كل هذه الإسفاف والرداءة. من المؤسف أن البعض أدمن العيش مع القيم فاسدة.. ومن المحزن أن نكتشف أن الجهل والانتهازية لهما من يفتخر بهما!
العمود الثامن: تعلموا الدرس من "أبو كاطع"
نشر في: 13 يوليو, 2012: 09:04 م