احمد المهناالثورات تبدأ طاهرة. ثم سرعان ما تنتهي الى تلويث كل شيء. انها تنشأ لأسباب مشروعة. وغالبا ما تتعلق بالكرامة. سلطات او حكومات تتجاوز الحد في امتهان الناس. فتقوم ردود أفعال، وتتجمع شيئا فشيئا الى أن يحدث الانفجار أو الثورة.
ولكن الثورة ليست معادلة رياضية متكونة من طرفين، هما معارضة ضد سلطة، أو جماعة مظلومة ضد أخرى ظالمة. وحتى اذا كانت في البداية كذلك، فانها تتغير في لحظة نجاح الثورة. فالمعارضة الواحدة تصبح متعددة، هذا اذا لم تكن هي كذلك منذ البدء، فتكون هناك جماعات سياسية متنازعة. ومن هنا يبدأ الصراع.ومع الصراع يكون هناك أمر آخر قد حدث، لا يقل خطرا وأهمية عن الصراع نفسه. وذلك هو "الانحلال" الذي تعرف به الفترة بين وقوع الثورة وبين الاستقرار. انها ما يعرف بالمرحلة الانتقالية. فقد تهدمت اسس الاستقرار التي كانت قائمة قبل الثورة، وظهرت موازين قوى جديدة. ويشمل ذلك التغيير تداعي القانون والتقاليد والقيم. وهكذا فان كل ثورة، او كل تغيير جذري، سواء كان سقوط نظام بغزو أجنبي أو بثورة محلية، يعني دخول البلد في مرحلة "صراع وانحلال". الانحلال يتعلق بالقوانين والعادات والتقاليد. والصراع يخص الجماعات التي تظهر بعد التغيير، وتباشر التنازع فيما بينها على السلطة والثروة.وهذان المظهران، الصراع والانحلال، ينحدران بالثورة من النقاوة الى اللوثة، او من الاستقامة الى الفساد. ولعل أقرب الأمثلة على ذلك ما لاحظه المراقبون على أيام الثورة المصرية ال 18. فقد اختفت خلالها ظاهرة التحرش الجنسي اختفاء تاما. وهو أمر يسترعي الانتباه للغاية في بلد محافظ يعاني من الكبت. ولكن ما ان عدت الثورة، وانفقد بعض عناصر الاستقرار، وظهرت الجماعات السياسية المتنازعة، حتى عادت ظاهرة التحرش الجنسي بشراسة أكبر، خصوصا بعد أن أصبحت أحد اساليب النزاع السياسي.ومنذ بداية تدوين التاريخ لوحظ على "مراحل الانتقال" شيوع التدافع الشامل على السلطة، وانتشار الرشوة، وكثرة الاغتيالات، وسهولة اندلاع معارك الشوارع. وغالبا ما يكون ذلك ساريا في اطار محيط بمشهد من تراخي التقاليد وانهيار الخلق السياسي. ذلك أن السياسة تتحلل من المثل الى درجة خطيرة، ويصبح الهدف متركزا لديها على السلطة وعلى الثروة. وتحلل الخلق ينزل من أعلى حلقات المجتمع الى أدناها، لدرجة لاحظ معها احد مؤرخي اليونان القديمة انه في مرحلة انتقالية ما "لم يكن في وسع أي اسبارطي ان يقاوم الرشاوي".وعلى رأي المفكر البريطاني هارولد لاسكي فاننا غالبا ما نعزو الفساد العظيم في مثل هذه المراحل الى ساسة اشرار، بدلا من أن نتعب انفسنا في البحث عن "تلك الأسباب اللاشخصية البعيدة الغور التي يعجز الناس عن ضبطها وهم ليسوا في الواقع سوى رموز عابرة لها". وبعبارة أخرى فان مراحل الانتقال الثورية تكون عادة ذات طبيعة فاسدة. انها أشبه بتيار يجرف الناس. تيار يأتي من انهيار سلطة القانون والتقاليد، وما يؤدي اليه ذلك من اضطراب شامل في الأمن، يصبح معه المبدأ الصحيح لكل فرد هو ما يقيه من الزوابع، بغض النظر عن ماهية هذا المبدأ.ورغم ذلك فان "أخلاق المراحل الانتقالية" ليست بهذه الدرجة من القدرية دائما في كل تجارب التاريخ.
أحاديث شفوية: أخلاق المراحل الإنتقالية
نشر في: 14 يوليو, 2012: 06:27 م