سرمد الطائي لا اتذكر اسم قصة الاطفال التي قرأتها قبل 25 عاما والتي ترجمتها دار ثقافة الاطفال العراقية يومذاك عن احدى اللغات الحية، لكنني اتذكر انها كانت من صنف "الخيال العلمي" وهي تتحدث عن الالات التي ستقوم باعتقال البشر تحت الارض وفرض نمط معيشة رهيب عليهم.
كنا نقرأ هذه الاشياء ونحن اطفال، كنا نعتقد انها تتحدث عما سيصبح عليه العالم بعد مئتي عام، غير اننا صرنا نشاهد ذلك وهو يتحقق بسرعة رهيبة مدفوعا بالدهشة والبزنس وهوس المعلوماتية.وحتى قبل بضعة اسابيع كنا مجموعة اصدقاء نكتفي بهواتف النوكيا شبه الكلاسيكية، لكن الصديق عدنان الطائي يدخل ويخرج علينا بجهاز اي باد وهاتف اي فون، ويؤكد لنا ان علينا اقتناءها وانها ستقوم بتسهيل اعمالنا. وبسرعة عثر لنا على اي بادات واي فونات وسامسونجات حديثة بالتقسيط المريح جدا، فاشترينا كل هذه الاشياء دفعة واحدة، بهدف تسهيل اعمالنا وتواصلنا مع كل شيء.والحقيقة انها تسهل الحياة كثيرا، فلم يعد علي ان اقوم بتشغيل الحاسبة واللابتوب والدخول الى الانترنت لان كل شيء موجود في لوح اضعه في جيب القميص! اللوح الصغير المسمى غالاكسي يشبه اللوح السومري التاريخي، لكنه مرتبط بملايين الالواح والحواسيب المليئة بالمعلومات. هل تشتهي ان تعيد قراءة العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي؟ اذن قم بتحميله الى هاتفك واقرأه متى ما شئت. وجدت نفسي اقوم بتحميل عشرين كتابا في تلفوني خلال يوم واحد وأعد نفسي بإعادة قراءة اهم الكتب التي تستحق الاهتمام. وحتى الليلة الماضية كنت مسرورا بتصفح كتاب اسحق نقاش الصادر عن المدى قبل عقدين والذي يتناول تفاصيل شيقة عن كيفية دخول القبائل العربية في العراق الى التشيع بمئات الالاف.لكن الامر لم يتوقف عند حدود هذه الفائدة العظمى، لان نبوءة القصة التي ترجمتها دار ثقافة الاطفال راحت تتحقق، ووجدنا انفسنا رهن الاعتقال من قبل هذا اللوح الالكتروني الصغير المتصل بكل سنتمتر من عالم المعلوماتية. وفي كل السهرات التي جمعتنا بعد شراء الهواتف الذكية هذه، كنا نكتشف اننا اقلعنا عن التواصل مع بعضنا، ولم نعد نروي الحكايات او نعلق على الاحداث. جلسة السمر صارت صامتة يسودها هدوء قاتل، فالجميع يحدقون في هواتفهم وينتقلون من فيسبوك الى تويتر، ومن متجر البرمجيات هذا، الى منتدى التسلية ذاك. يقومون بتحميل عشرات الكتب التي لا يتسع الوقت لقراءتها، لان خيارات الهاتف الذكي جدا، تجعلك تتبضع البرامج والمعلومات وتخزنها على هاتفك، دون ان يكون هناك وقت للاستفادة الحقيقية منها.في المنزل هناك وضع مشابه. زوجتي تحدق في جهاز الاي فون، وانا منهمك مع السامسونج الغالاكسي، وننتبه كلانا بعد مرور ساعتين الى اننا لم نتبادل اي حديث، لاننا ببساطة رهن اعتقال هذه الهواتف الاكثر ذكاء منا، والاكثر قسوة. وفي مرحلة ما قبل الهاتف الذكي كنت استخدم الانترنت كثيرا وبمستوى الادمان احيانا، الا انني اتعب واقوم باغلاق الكومبيوتر والانهماك بشؤوني الاخرى. اما الان فإن الهاتف معي اينما ذهبت. استلقي على الفراش واجد نفسي اتصفح موقعا الكترونيا. امسك بكتاب لاقرأ فيصرخ الموبايل: جاءك ايميل جديد. احاول مشاهدة فيلم فيصرخ الموبايل: هناك تحديث لبرنامج المستكشف الجغرافي الذي قمت بتحميله مؤخرا، وهكذا.في العمل الاحظ ان بعض الاصدقاء بدأ يفقد تركيزه ايضا لان الاي فون او السامسونج "يشل تفكيره" بكثرة التفاصيل الواردة عبر الايميلات والدردشات وشبكات التواصل والبرامج وغيرها وغيرها.والامر ينطوي على مفارقة، فالهدف من عصر المعلوماتية هو تحويل العالم الى قرية صغيرة نتواصل فيها مع بعض بشكل افضل. لكننا نكتشف ان هذه القرية الصغيرة مليئة بسجون صغيرة على شكل الواح ذكية، نعتقلها داخل جيوبنا او حقائبنا، بينما تعتقلنا هي في الحقيقة داخل عالمها الرهيب.الادمان على الانترنت الذي يمثل هوسا رهيبا يتفاقم اليوم حين يصبح الانترنت في جيبك داخل هذا اللوح الصغير الذكي والقاسي والمليء بكل شيء، حتى انني اضطررت الى "استخدام القوة" ومصادرة هواتف الاصدقاء في آخر سهرة جمعتني بهم، وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة لمناقشة موضوعات جادة كان علينا تناولها. وعلي ان انهي هذا المقال سريعا لان الغالاكسي يصرخ بي الان، وعلي ان ارى ماذا يريد مني "سجاني".
عالم آخر:محنة الهواتف الذكية
نشر في: 14 يوليو, 2012: 09:20 م