اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > الشـــطري يـــغادر بساتين الكتب

الشـــطري يـــغادر بساتين الكتب

نشر في: 16 يوليو, 2012: 06:57 م

علي حسين لسنوات طويلة تمنيت لو كنت قريبا من  نعيم الشطري "أبو ربيع"  لأتعلم منه كيف يحب الإنسان نفسه ويسخر منها في الوقت نفسه .. وكيف يصبح الانغماس في الحياة  طريقا إلى للاهتمام  بالسياسة .. وقف مشاكسا للحياة التي أدارت ظهرها له .. وفي كل جمعة تراه باسما برغم المحن والعوز .. بدأ الحياة من تحت خط الفقر .. وتدرج في عالم الكتاب .. كان محبا للحياة بلا حساب ، ومحبا للكتاب بلا حدود ،
 أسس مدرسة في بيع الكتاب تدرج فيها كثيرون ولكن لم يتخرج منها احد ، جاء إلى بغداد في بداية الستينيات فقيرا .. ليبدأ فيها الحياة من تحت خط العوز.  كان أستاذاً فريداً في فنه ، فن الدعوة إلى اقتناء الكتاب وعشقه ، أحيا تقاليد مزاد الكتب التي اشتهرت فيها بغداد عبر العصور .. لم يكن له أستاذ سوى صاحب المكتبة الملوكية الشهير ب "احمد كاظمية " وهو الرجل صاحب الأطوار الغريبة في بيع الكتاب  فأراد  "أبو ربيع" أن يكون امتدادا له، لا تعرف إن كان يعشق الكتاب من أجل المعرفة أم يبرع في عرضه وبيعه من اجل مال. وكان ظريفاً آسر الحضور إذا ضحك، وآسر الحضور إذا غضب، ويغادر المكان إذا ثار، ثم لا يلبث أن يعود، ضاحكاً من نفسه، معتذراً، مثل طفل، عما فعل.أحب اليسار والاشتراكيين ومشى في خطاهم، وكان يروي لجلسائه ضاحكاً بأنه سوف يظل ينادي بالاشتراكية إلى أن تقترب من قلاع السياسيين وحصونهم لتقتلعها بسيط الملبس، يليق به أي شيء، شديد الاعتزاز بنفسه، يسهر الليل حتى آخره، ويعمل النهار حتى يتعب، كان يطل على الجميع من باب دكانه الصغير، يتمنى أن يوسعه يوما ففي هذا المكان ولدت الطريقة الشطرية  الظريفة في بيع الكتاب والتي لم يستطع أن يقلدها احد. معوزا جاء من الشطرة  التي كانت تسمى آنذاك "موسكو الصغيرة"، عمل  متوكلا على أريحيته وعاطفته تجاه الآخرين، بدأ حياته صبيا يبيع الصحف  فقيراً معدماً، وقرر أن يصبح صاحب دار نشر، أراد أن يكون من كبار مكتبيي بغداد مسترشدا بسيرة أستاذه ومعلمه قاسم محمد الرجب، فأنشأ  على غراره دار نشر صغيرة لم يحالفها الحظ لتصبح بحجم دار المثنى التي أنشأها الرجب. في شارع المتنبي بدا الشاب الفقير من دون أي عقدة، يستقطب كبار الكتاب والصحافيين: المترجم فؤاد عباس والبغدادي فخري الزبيدي وعلي الخاقاني وحسين علي محفوظ  وراسم الجميلي، وكل من استحق بحق لقب شاعر شعبي مرفقا باسمه زامل سعيد فتاح  وكاظم إسماعيل كاطع، وأشهرهم عبد الحسن المفوعر الذي نشر له الشطري ديوانه اليتيم.طريقته الجميلة والمحببة  في المناداة على الكتب كانت عنصرا آخر في بهجة شارع المتنبي، ولم ينج العلامة مصطفى جواد من أهازيجه حين ردد على مسامعه جملة "تنزيلات هائلة بالكتب بالضم وليس بالجر".أحاط نفسه دائماً  بالأصدقاء، مستمتعا بظاهرة الكرم التي رافقته طوال حياته، لم يستطع أن ينزع من ذاكرته لحظة واحدة، أيام الفقر والعوز،  تعلم القراءة والكتابة على ضوء الفانوس، قال لي ذات يوم "كان أبي المتعاطف مع الشيوعيين يتمنى أن أكون محاميا أدافع عن الشيوعيين الذين ظلوا يدخلون السجون في كل الأزمنة والعصور"، ولم يحقق "أبو ربيع" حلم والده لكنه في النهاية دخل سجن لصبح بعدها خطيبا في حب الشيوعيين ومناصرا لهم، مثلما أحب الموسيقى وناصرها وفضّل المقام العراقي والبسته البغدادية على كل أغاني مدينته الناصرية.كلما ادخل شارع المتنبي يتناهى لي صوت "أبو ربيع" مجلجلا وكان يسيطر أو يطغى على المكان. ليس بكونه صاحب المكان، بل انه محبا لمهنته، كان عارفا بأسرار الكتاب، وكان الآخرون يدركون جميعاً، أنه هو الأستاذ، والباقي تلاميذ.كان له أسلوبه الممتع في الحضور والحياة.  وظلت مكتبته ، مدى أدبياً متفرداً في حاله، خليطا من الأدب والسياسة والنقد والسخرية، وقاسما مشتركا واحدا هو الحب، ولذلك كنت اسمي دكانه الصغير "ملتقى الأحباب".  لا أعرف أحداً من باعة الكتب حول هذه المهنة إلى شيء جميل ومدهش وممتع، مثل ربيع الشطري. وحول مهنته إلى ضرب من ضروب الفكاهة  ، وكنا ننتظر صوته الصادح كل جمعة لكي نعرف ماذا قرأ "أبو ربيع" بالأمس. كان دكانه الصغير  يبدو مثل جامعة صغيرة يجلس الأساتذة في بابها  ينتظرون الإشارة من عميد الدار الذي كان ينظر في وجوه الجميع وهو يتهيأ لإلقاء خطبته، يقول الجملة ثم يعيدها ثم يستعيدها ثم يقول لك: اقرأ ديوان الجواهري الكبير، ليلحقها ببيت المتنبي الشهير:  اعز مكان في الدنى سرج سابح.. وخير جليس في الزمان كتابوكان إن لقي كتاباً رقص بساعديه وهتف:" الكتب بساتين العلماء"

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram