هناء مهدي لا يختلف اثنان على أن الأزمات أو الحلول في العراق تنطلق من قاعدة الدين الإسلامي، كونه دين الأغلبية العظمى من العراقيين، مواطنين وساسة ورجال دين وفكر وثقافة ومجتمع واقتصاد وحتى منظمات المجتمع المدني، وهو ما فرض تهميش أو في أحسن الأحوال عدم الاستماع للآخرين من الأديان الأخرى، بالتالي لابد من النظر ملياً إلى هذه القاعدة بعين الاعتبار والاهتمام بعيداً عن التشنج أو التعاطف معها أو ضدها.
فمن هذه الخلفية الدينية انطلقت الكثير من الأفكار الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، نراها متمثلة بالتقاليد والأعراف الشعبية، والأطروحات والمشاريع السياسية، ومنها مشروع الدستور العراقي الذي وبالرغم من تناقضاته إلا أنه اعتمد الإسلام مادة للتشريع يجب أن لا تختلف مع ثوابته أية قوانين وتشريعات، كذلك تظهر الخلفية الإسلامية في جانب ليس بالقليل من المنجز الثقافي، وبشكل خاص الفني، فلابد من مراعاة الذوق العام (الإسلامي) في ما ينتج الفنان سواء كان تشكيلياً أم موسيقياً أم ممثلاً أم مطرباً، وفي الاقتصاد ثمة مصارف انتعشت في العراق باعتمادها الفقه الإسلامي (تجنب الربا)، بل وصل الأمر إلى امتناع البعض عن اقتراض السلف والقروض الحكومية من منطلق أنها تدخل في باب الربا، أو العكس وهو تغيير آليات الإقراض لتتماشى مع الإسلام.وفقاً لذلك، ينظر العراقيون من غير المسلمين إلى دولة قد لا يجدون لهم فيها مكانا يمارسون فيه حق إظهار (الهوية المغايرة)، لا أعني بذلك التغييب المتعمد أو مصادرة حقهم من قبل الغالبية بل أقصد أن فرض الهوية الفئوية الواحدة ينتج بالضرورة تحجيم دور الهويات الأخرى، وبالتالي غياب الهوية الوطنية التي من المفترض أنها خلاصة أو الصورة الكاملة والأخيرة لتاريخ التعددية في العراق.بسبب تفرد الهوية الفئوية أو غياب الهوية الوطنية، اقتصرت الثورة التي صنعت الدولة العراقية الحديثة وأقصد بها (ثورة العشرين)، اقتصرت على دين واحد بل مذهب واحد هو الشيعة، لم يكن للسنة ذلك الدور الكبير الذي كان للشيعة، كما كان للكرد – وهم مسلمون – دور محدود جدا لا يكاد يذكر، أما المسيحيون واليهود والصابئة وغيرهم فلا دور لهم في الثورة، ظهر دورهم وفاعليتهم في الأحزاب السياسية التي ولدت بعد قيام الدولة العراقية، سبب ذلك واضح وجليّ، هو غياب الهوية الوطنية، وأرجو أن لا يفسر كلامي في غير معناه، أنا لا أنفي وطنية البعض وأعليها لدى غيرهم، بل أشير إلى أن عدم شعور الآخرين من غير دين أو مذهب أو قومية الأكثرية بأن ما يجمعهم هو الهوية الوطنية جعلهم يحجمون عن الانخراط في الفعاليات والأنشطة التي تمارسها الأكثرية وخاصة تلك التي تتعلق بمصير الدولة ونظام الحكم.بالتالي تفرض هذه المعطيات وواقع الحال تبنّي مشروع وطني ذي منهج فكري ليبرالي يجعل من الفرد قيمة عليا وليس الجماعة أو الأغلبية الديمقراطية، وأيضا آليات تطبيق تحتكم إلى القانون والمؤسساتية، ليشعر الجميع بأنهم ككل يمثلون هذا البلد ولهم فيه دور، لكن يجب أن لا تتبنى أو تشترك الأحزاب السياسية وخاصة الدينية والقومية بإعداد هذا المشروع الذي يجب أن تكون خطوته الأولى إعادة كتابة الدستور وخاصة ما يتعلق بالحريات الشخصية والعامة ،فهي تتطلب تغييرا جذريا.لا محالة أن هذا المشروع سيواجه تهديدا كبيرا من قبل القاعدة الكبرى (الإسلامية)، لذا سيسير المشروع وسط حقل ألغام لن ينجو منه إذا ما عمد القائمون عليه إلى وطئ معتقدات هذه القاعدة، لذا يستوجب الأمر تمهيدا فكريا بلغة تفهمها الفئات الاجتماعية المحدودة التفكير، ومن الضرورة بمكان الاستعانة برجال الدين ممن يؤمنون بنظام دولة المؤسسات والهوية الجامعة، كذلك يفرض الحال تطمين هذه الفئات على حقوقها العقائدية من خلال إيضاح الضمانات التي تكفلها الدولة المؤسساتية والنظام الليبرالي، بالمقابل أيضا يجب قدر الإمكان تجنب الإشارة إلى أن المشروع جاء ليضمن حقوق الآخرين من الأديان والقوميات الأخرى ،فهذا سيثير حفيظة الأغلبية التي تعتقد أن النظام الديمقراطي قائم فقط على الأكثرية سواء الانتخابية أو السكانية والتي يحق لها أن تفرض قوانينها وإرادتها على الآخرين وفقا للدستور والقانون، ويجب أن يكون الترويج للمشروع على أنه هدف للدولة العراقية بما تحتويه من مؤسسات مختلفة تضمن للجميع حقوقهم.إن دراسة وتحليل واقع المجتمع العراقي، تكشف أن النظام الديمقراطي القائم بعد 2003 لم يأخذ من الديمقراطية غير قشورها ولم يقدم للعراقيين هوية وطنية، فالأحزاب والدعوات الدينية والقومية والوطنية أيضا لم تسهم في بلورة هوية واضحة لأنها أشبه بمشروع توليفي يحتوي على متناقضات واضحة، وهو ما يمكن ملاحظته والوقوف عليه من خلال مراجعة مجمل الأفكار والمذاهب والتيارات الفكرية السائدة حاليا وسابقا والتي فشلت في إيصال المجتمع إلى أعتاب الوطنية، وما حصل هو مجموعة تغييرات شكلية غيرت مواقع السطح، ولم تصل إلى أعماق المجتمع، فضلا عن غياب وتغييب الرؤى الإستراتيجية المستقبلية لهذه الأحزاب والتيارات.هذه النخب عاجزة عن فهم وإدراك حجم الأحداث والتحولات المتسارعة التي تعصف بالبلاد، فقراءاتها متسرعة ومرتبكة وغير واضحة، خاصة في الجانب الاجتماعي، كما أنها - أي النخب - تتمسك بأفكار وطروحات مغلقة قديمة موروثة من عهود التخلف الفكري والسياسي، وهي لا تزال حاضرة بقو
هل الليبرالية ممكنة في العراق؟
نشر في: 16 يوليو, 2012: 07:03 م