قراءة :شاكر مجيد سيفو للأب الشاعر د. يوسف سعيد اعمال شعرية صدرت في اوقات متباعدة، فقد أصدر (الموت واللغة 1968 بيروت) (ويأتي صاحب الزمان، قصيدة 1986، أسوج) و(طبعة ثانية للتاريخ) ضمن منشورات الشباب 1987 بيروت). ومجموعته (الشموع ذات الاشتعال المتأخر عام 1982 ـ بيروت)، التي سندخل في اعماقها لقراءتها.
يتحرك الشاعر في أولى مراحل بناء نصه الشعري عبر جهاز لغوي مغاير تماماً للمالوف يميزه عن المنجز الشعري ـ الذاكراتي ـ برمزيته ومعرفيته، وشعريته التي تتجزأ في سماتها وتتوزع في مستويات دلالية متعددة تبث موجاتها الاشعاعية في عدة اتجاهات، فالنص الشعري عند الأب يوسف يتوفر على قدر من التنوع والتداخل والتنافر والقض وفي طبقاته السيمولوجية، وهذا الخلق الفني يؤسس له بنى تراكمية تتداخل فيها الاشكال والهياكل الجمالية، وتتسع لتشع من الداخل عبر رؤية شعرية يسجل فيها الشاعر لا بل يستنطق فيها حركة الاشياء والموجودات وذلك بادخالها في مختبره الحسي ـ والمرئي في سلسلة افكار حلمية وانفعالية تراكمية.ان البؤرة المركزية التي تنطلق منها اشعاعات النص تقوم على الجدلية الثنائية بين موضوعتي -الزمن والوعي- هاتان الوحدتان اللتان تشكلان جسد النص ووجوديته يثيرهما الشاعر في لغته القريبة من (الاستنباطية) على حد تعبير الشاعر –اوكتافيو باث- وهو يشير بذلك على قدر عال من غرائبية الصورة وسحريتها ويتجسد هذا المنظور الفكري والصوري في قصيدته (الذكاء امام المزارع الابدية ص21) حيث يقول:(نسل معاد فوق ارصفة اهملتها، وغزتها، عفونة الظل الثقيل يتحركون ببطء، كبجعة مريضة/ كأزمنة تجرجر ذاتها مع رحىً من صخور الغرانيت/ نسل ينزلق نحو غابات متوحشة/ نحو اهراء معبأة بالقصدير والملح والخرق البالية/ نسل في إغفاءة الموت المحتم... هناك رغبة فردوسية للجميع ولكن، حقوي النسل معصوبة بحبال القنب القحط فقط/ يهرعون بلهفة نحو سلم الابادة/ نسل معاد/ داخل غرف العبيد/ الضحكة معدومة الا من ضحكة هستيرية/ كمدمن، لا يعرف كيف تتسلق الشمس صدر السماء.إنّ الشاعر هنا يستعير مقترباً حسياً قريباً من صورة الارض اليباب، فصوره تقوم على المزاوجة بين الذهني والتصويري، بين الشكلانية العالية الممتلئة على ابستمولوجية متقدمة، تصطرع في مخيلة الشاعر وتكاد لغته الاشارية ان تتشكل من مجموعة من الالفاظ تؤدي الى تصريف افكارها عبر نسق رؤيوي تجريدي يقوده الغموض الى مساحات جمالية دينامية بفعل الوعي الشعري وتحرير الذاكرة من عوالقها.ان جوهر الشعر عند الاب الشاعر يوسف سعيد يقوم على اساس ثنائية الخلق والعدم هذه الثنائية التي تستثني عنها لغته بما فيها انشغالات الشاعر بما يشبه كيميائية الظاهرة الكونية، وتقاطعه مع الثابت والخفوت في الاشياء، انه يتصل بالآخرين عن طريق الشعور، وهو يؤكد على اللحظة الشعورية ويسعى الى القبض على ابديتها، تلك اللحظة وحدسها المتقد في المنظور الباشلاري... والوصول الى الحلم العميق، [ذلك الحلم الذي دفع الشعراء وهم ندرة الى ان ينتهوا الى الصمت، او الى كتابة الصمت]، ان الاب الشاعر يوسف سعيد لا يعنيه الافصاح او التلميح هذا الذي يوفر امكانيات البوح للخطاب الشعري في حالة غياب التكثيف، لأنّ القفز ما وراء اللغة هو الذي يجعل النص بعيداً عن البوح وترسيخاً للتكثيف والعمق والسرية والحركة القصوى، داخل ميراث الجنون.وفي المشهد الشعري الذي نحن فيه (الشموع ذات الاشتعال المتأخر) يحلق الاب الشاعر يوسف سعيد في فضاء تصوفي ولاهوتي زاخر بالمعرفي والفلسفي، فهنا (يصب) الشاعر مخلوقاته في بانوراما سحرية وذلك باستنطاقه لروح الامكنة التاريخية والتراثية الحضارية من وادي الرافدين ويمتد هذا التشكيل البانورامي ليتسع ويحضن الكثير من المقتربات الميثولوجية في مشهد شعري يتقد فيه الخيال وينعطف بالرؤية الشعرية الى عدة مسارات لاهبة لاجتراح الاشكال الحياتية القائمة في الطبيعة وظاهراتيتها، لنقرأ معاً هذه المقاطع من قصيدة [الموصل] ـ مدينة الحدباء ـ ونينوى ـ مدينة آشور القديمة، هنا تبرز اشتغالات الشاعر بالمكان وطرح خزينة الذاكروي في مشاهد لامعة معنىً ولغة،..[الموصل أخصاب مبارك/ طائرات ورقية ملونة/ جدرانها تتنفس رحيق الطحالب/ الموصل تقاطع البازلت على فخذها الايمن خطوط سوداء شفافة/ من تقاسيم الغرانيت/ الموصل رشاقة الحندقوق/ الموصل تعبّيءُ في اقفاصها اجنحة الفرشات/ الموصل تجهض احلامها الهجينية/ الموصل رغبة معلقة فوق جسر العصور/ الموصل تباريح الرعشة في كبد الاطفال/ "قضيب البان" اشراقات مترجرجة كذرة صفراء، كحدقة الاوقيانوس/ دروبها اشبه بضلوع الزمهرير/ أقراطها، سبحة من لهات الاسماء والتواريخ/.. الموصل، النظرة اللامتناهية لمسيرة الافلاك.. الموصل تغتسل جسدها برغوة الربيع/.. الموصل تتعشى في المساءات الحالمة/ ثم تترع من قنينة الخمور العتيقة/ الموصل تشرب ماء من قرنفلة الاوقات، وإذا انتشى رعاتها بدسم الربيع، قطفوا رحيق التأمل من نسغ الكلمة، هناك تبدأ حفلة التصوف هذيانات../ الموصل نزوع نحو ابدية الفراغ...هكذا إذا يسيح الشاعر في لغته الصورية مستنطقاً فيها نسقها الرؤيوي ومنتجاً عبر ديناميتها التشكيلية مشاهد مثيرة، ان التكرار الذي بن
سياحة المخيلة في (دروس الشموع ذات الاشتعال المتأخر)
نشر في: 16 يوليو, 2012: 07:54 م