د. فاضل سودانييكون البعد الرؤيوي الإبداعي وسيلة الفنان الحقيقية والمعاصرة لتوصيل رؤياه للجمهور . لان المسرح هو شعر الكون والوجود في الفضاء الإبداعي . ولهذا فان الرؤيا الإخراجية تعني التأليف الرؤيوي الجديد للحدث والفعل والجسد ، في لحظة من تجليات الذات المتفردة في زمنها وفضائي الإبداعي ، والإخراج يعني أيضا هو البعد الشعري لفضاء وزمن الطقس المسرحي .
هذا المنطلق فان المخرج هو راءٍ متفرد نتيجة لرؤيته الإبداعية الخاصة التي تتشكل في زمن الإبداع ، وهو كالشاعر الرائي ( الذي سكن روح رامبو وأحلامه ) حيث هو الذي يستشف بكل حواسه وكيانه ، ما وراء الأشياء والأحداث ، وهو الذي يضع يده على الجوهر الخفي في كل مظهر من مظاهر الوجود بما فيه الواقع المرئي واللا مرئي .ولا يمكن للمخرج أن ينجح في استعمال وسائله التعبيرية بشكل مبدع ما لم يمتلك معرفة دقيقة بقوانين التأليف المسرحي أيضا حتى يكون خالقا ومبدعا للنص بوسائله البصرية . وكذلك الحال بالنسبة إلى مؤلف النص الذي عليه أن يفهم قوانين الرؤيا الإخراجية و فضاء خشبة المسرح ، لأن عمل المخرج والمؤلف يجب أن يتجسد من خلال الحركة أولا ، الفكرة ثانيا ، الإيقاع ثالثا والكلمة رابعا ، إضافة إلى امتلاك الرؤيا البصرية لفضاء النص والعرض.وهذا يعني أن المؤلف بهذه الوسائل عليه أن يفكر بصريا ويرى العرض في فضاء التجسيد وليس على الورق . واستطيع أن أؤكد بلا حرج بأن بحث المخرج من اجل تكامل لغته يكمن في ما وراء النص وما وراء الإيماءة ، ما وراء الميزانتسين ، وما وراء الفعل والحدث ، ما وراء سينوغرافيا العرض ، وما وراء الصورة ، ما وراء الفضاء المسرحي وزمنه . إذن الرؤيا الإخراجية تبنى من خلال تحقيق معمارية السرد الرؤيوي للفضاء والزمن في العرض (الطقس) المسرحي وهذا يفرض استخدام مفردات العمل الإبداعية بوظائف مغايرة تتناسب مع هذه الرؤيا بحيث تتشكل سينوغرافيا فضاء الطقس المسرحي البصري . وبهذا فان النص يصبح صورة بصرية معبرة عن ذاتها ومؤثرة في الفضاء . فتتحول هذه الصورة لتصبح مشهدا مستقلا ومعبرا وتتكامل بحركة الممثل وديناميكيته لتنتج معنى جمالياً وفكرياً، ولهذا فان الجسد في لحظة الإبداع البصري يصبح مادة وشئاً له وجوده وإيقاعه الخاص في الفضاء . من هنا يبدأ التأليف الرؤيوي والكتابة و الفكر الإخراجي بحيث يكون المخرج مؤلفا ثانيا للنص أي انه يقوم بتأليف النص وإعادة خلقه بصريا ، ويكون عمله تعبيرا موسيقيا ـ صوتيا ـ ورؤيا حركية عن الإيقاع الداخلي للعمل الفني ، وللمخرج الحرية الكاملة في كيفية استعمال الوسائل التعبيرية التي تؤدي إلى خلق النص المسرحي بصريا ومنحه نبض الحياة وليس تفسيره كما يفهم عادة . أما النص الذي يكتب بوسائل العرض المسرحي وقوانينه وليس بقوانين الأدب (أي لا يبنى بالضرورة على الكلمة) فهو صور وأحداث تعبيرية سواء كانت من الواقع المرئي واللامرئي أو الحلم ـ الكابوس ، فليس هنالك اختلاف جوهري بينهما ، بل هنالك تداخل طبيعي لكن عجائبي بين الواقع و الحلم . فمن الضروري أن يتحرر المسرح والدراما بشكل عام من الغموض والالتباس السايكولوجي والعواطف الثرثارة ويقترب النص والعرض المسرحي في معالجتهما من عملية الكشف عن السر غير المرئي الكامن في الحياة والوجود .ومن اجل هذا يعمد المخرج إلى التأليف بالجسد والحركة والصورة والسينغرافيا واللون والضوء ، وإعطاء قيمة شعرية لفضاء وزمن المسرح من خلال مفردات اللغة الإخراجية . وهذا ما يدفع المخرج لممارسة طقوسه والتي تحتوي على الكثير من سرية الإبداع . ولا يعني هذا أبدا رفض المخرج لإمكانيات الكلمة المتفجرة بالصورة الدرامية الشعرية بل العكس تماما فان المخرج المعاصر يجب أن يتعامل معها كمفردة مهمة ضمن الوسائل الإبداعية التعبيرية التي تحقق العرض المؤثر والذي يعبر عن وعي الفنان وأزمات عصره أو يعبر عن قلق الذوات الأخرى التي ترى في المسرح محراباً للتوازن في عالم ينحدر نحو هوة الضياع .بهذه الوسائل فقط يقوم المخرج بإعادة كتابة وبناء النص من جديد . انه يمتلك مطلق الحرية ، فليس هنالك وصفات جاهزة لتفسير النص . فكل شيء يتحرك و كل شئ يتغير في المكان والفضاء والزمان . والمخرج عقلا وروحا ليس ثابتا . إن وسائل المخرج هي حقا مفردات كتابة ، تحقق رؤيته بمساعدة النص .
بصريات الرؤيا الإخراجية في المسرح
نشر في: 16 يوليو, 2012: 08:00 م