احمد المهنا الدستور العراقي، بالإجمال، يعتمد أفضل شكل من أشكال الحكم التي توصلت اليها البشرية، وهو النظام الديمقراطي. ولكن الحكم الممارس في الواقع يستعيد أشباح أقدم وأسوأ نموذج حكم عرفته البشرية، وهو "سلطة الفرد". وليس أدل على قوة حضور "أشباح سلطة الفرد"، أو أطياف الدكتاتور، من المخاوف الكامنة وراء محاولات تحديد مدة حكم رئيس الوزراء بولايتين، بدلا من أن تكون مفتوحة كما جعلها الدستور.
فأين تكمن أسباب هذه المفارقة المأساوية؟ أي "الديمقراطية النظرية" في الدستور، وشبه "السلطة الفردية" في الممارسة؟لا يوجد سبب بعينه يمكن أن يفسر وحده ظاهرة سياسية أو اجتماعية ما. ان السبب الواحد، مثل الحاكم الواحد، كاذب لا محالة. فغالبا ما تكون هناك اسباب كثيرة، تتضافر مع بعضها البعض، وتؤدي مجتمعة الى قيام هذه الظاهرة او تلك. ومن المؤكد ان بعض هذه الأسباب أهم من بعضها الآخر.لكن رغم ذلك فان هناك جانبا معينا يستحق التركيز عليه، أكثر من غيره، في المناقشة حول الدكتاتورية والديمقراطية، وهو الفرد والقانون. أو سلطة الفرد وسلطة القانون. وهذه أقدم مناقشة عرفتها البشرية منذ قطعت خطوتها الأولى على طريق تكوين الحكومة والمجتمع. وكان ذلك في اليونان قبل أكثر من 2500 سنة. ولم تفقد تلك المناقشة صلاحيتها في كل بقعة من الأرض لم تقم عليها سلطة القانون. واينما وليت وجهك اليوم في البلاد العربية والاسلامية فانك ستفتقد، بهذه الدرجة أو تلك، وجود سلطة قانون مستقرة وراسخة.وخلاصة تلك المناقشة القديمة- الجديدة هي أن سلطة الفرد المطلقة، الحرة من أي نوع من أنواع المحاسبة، تؤدي الى افساد الحاكم ولو كان أفضل الرجال. ومن ثم افساد المجتمع نفسه، لأن الرجاء من الجسم ينقطع اذا فسد الرأس. وان البديل المنيع على مثل هذا الفساد الشامل هو نمط من الحكم وصف بأنه يحمل أجمل الأسماء، وهو:"المساواة أمام القانون". أي أن الذي يحكم فيه هو القانون، وأن الفرد، رئيسا أو مرؤوسا، يتبع القانون، ويخضع لمحاسبته. وان الفضيلة والرذيلة، والأخلاق بالجملة، هي ما يقرره القانون. فأنت فاضل لأنك تسير حسب القانون، ورذيل عليك دفع ثمن رذيلتك باحدى العقوبات المقررة اذا خالفت القانون.وبعد تلك المناقشة المجيدة والهائلة، التي كان أبرز فرسانها سقراط وافلاطون وارسطو، سارت البشرية في اتجاهات مخالفة شتى، الى أن كتب الله الرشاد لبعض منها، أو لأكثرها، فعادت في الأزمنة الحديثة الى سيرتها الأولى، بل وتفوقت عليها، من خلال اعتماد سلطة القانون، بطريقة لا رجعة فيها، وذلك في نسخة العصر الحالي، المعروفة بالديمقراطية الليبرالية. ولاشك في أن أهم ما في هذه النسخة هو تحويلها الحكم الذي "يحمل أجمل الأسماء"، حكم "المساواة أمام القانون"، الى حقيقة واقعة، قوية وراسخة. وقد دلت تجارب كثيرة، أبرزها رفض المالكي، بل وحتى مَنْ دونه في المرتبة الوظيفية كوزير أو محافظ، للإستجواب أمام البرلمان، وذلك امتثالا للقانون، على أن الفرد الحاكم مازال يتمتع عندنا بسلطة اعلى من سلطة القانون.وهذا هو جوهر المفارقة المأساوية في نظامنا السياسي الديمقراطي نظريا والفردي عمليا. ولا سبيل الى انهاء هذه المفارقة إلا باخضاع السياسة للقانون، أو نقل السلطة من الفرد الى القانون. ودون ذلك فان اشباح الدكتاتور باقية.
أحاديث شفوية:أشباح الدكتاتور
نشر في: 17 يوليو, 2012: 09:29 م