د. نعمة العبادي عندما تصل درجات الحرارة في صيفنا المميز ،والمدعوم لوجستياً بانقطاع طويل للكهرباء ،تنتابني حالة من الإغماء أشعر عندها بأن أجزاء مخي وأماكن الذاكرة فيه يسيح بعضها على الآخر،مثل ألوان الآيس كريم عند تعرضها للحرارة ،وفي مثل تلك اللحظات أشعر بإيحاءات مختلفة ،منها ما يعلق بذهني ومنها ما لا أستطيع القبض عليه ،ويتبخر لحظة أن أفتح عيني .
في ظهيرة يوم الأحد 24/6/2012،طرقني وحي الحالة في الساعة الواحدة ظهرا ،وكأني أسأله بلهجة ملحة يرافقها صراخ ،ما هو الحل لأزمتنا السياسية الراهنة ،وما هو الحل لمعضلة الكهرباء؟ فيجيب:ابتداع أزمة جديدة.لم يزد الكثير من التفاصيل، وقد أحال إكمال مشروع هذه النبوءة الصيفية إلى ذكائي. من يقلب سجل تاريخ السياسات الإجرائية بتمعن يصاب بالذهول والحيرة، حيث يجد صوراً من الإبداعات والحيل ما يعبر عن عبقرية فذة،أو شيطنة غريبة لا يكاد إبليس أن يتمكن بالإتيان بمثلها.من هذه الأمور الغريبة هي ابتداع الأزمات،أو تعويم الأزمات ،أو تسفيه الأزمات ،أو تصعيدها .وعلى الرغم من أن أدبيات نظرية المؤامرة لها حصة وافرة في هذا الموضع ،إلا أن الكثير من الصور غير منضوية تحتها قطعاً.تؤكد مرحلة ما بعد نيسان 2003 ،أن سياسيينا قد طالعوا هذا السجل جيدا ، واستفادوا منه كثيرا ،وخصوصا في مجال خلق الأزمات وتطويرها وتصعيدها ،فنكاد نعيش بين أزمة وأزمة أزمة أخرى ، وهو الأمر الذي يجعل الشارع ملتهبا بنقص الأمن والخدمات ،ويدور الناس حول أنفسهم ،ويشعرون بالانهيار لكثرة القلق.فإذا كان واقعنا متخما بالأزمات، وخصوصا في المرحلة الراهنة، فما معنى هذه النبوءة، وكيف يكون الحل الأخير في ابتداع أزمة جديدة؟توسلت كثيرا بملائكة الهجير الصيفي من أجل إعانتي ولو بمفاتيح صغيرة للوصول إلى حل، فجاء الجواب في جلسة غثيان أخرى، أن الأزمة التي لا بد من ابتداعها ينبغي أن تكون "أزمة شريفة". وهنا تزداد الحيرة، فما معنى أزمة شريفة؟ لكن الإبداع العراقي لن يتوقف، وقد اهتديت إلى صورتها.يرى سيناريو هذه الأزمة ،أن تتصدى إحدى القوى السياسية ،أو الكتل النيابية للحديث عن مشكلة الكهرباء بطريقة مختلفة ،فقبل أن تبدأ بفتح النار إعلاميا ،لا بد لها أن تقوم بإنجاز عمل مهم ، يتمثل في استقصاء منهجي وموضوع وصادق لجميع النفقات التي تمت على قطاع الكهرباء منذ نيسان 2003 ،وما هي المشاريع التي تم تنفيذها أثناء هذه الفترة ،ومن هم المسؤولون الذين تولّوا هذا الملف وأشرفوا على إدارته ومباشرة الإنفاق فيه ،بحيث يصل الاستقصاء إلى مدراء المديريات والأقسام والمحطات ولجان البيع ،وما هي القوانين والقرارات التي تم طرحها وتطبيقها (وطنيا ومحليا) من أجل معالجة هذه الأزمة ، وما هي العقوبات التي تم توجهيها للمقصرين ودرجة تنفيذها ومدى التغيرات التي حصلت بعدها ،ومن هي الجهات التي يشك بدورها السلبي في هذا الملف؟تعرض المعلومات التالية مبوبة وممنهجة على الرأي العام ، وتطالب الكتلة الساعية في هذه (الأزمة الجديدة النبيلة) ،كل المقصرين والمتواطئين في الحكومة التنفيذية ومجلس النواب والحكومات المحلية ، بالاستقالة أو تقديم أجوبة وافية وصحيحة أمام جلسة طارئة لمجلس النواب وبحضور الرئاسات الثلاثة.يرافق هذه الدعوة تحرك شعبي منظم واسع النطاق في كل المدن العراقية ،حيث ينزل العراقيون إلى الشارع في اعتصام مدني مفتوح في كل الشوارع ،دون أن تكون هناك لافتة لحزب أو صورة لزعيم أو شعار أو مطلب آخر غير مطلب واحد يتمثل :(في حل جذري للكهرباء ،بحيث يلمس الناس نتائج واضحة قبل أن ينسحبوا من الشوارع) ، ويبقى المسؤولون في كل السلطات في حالة طوارئ ، ويمنع السفر والإجازات لحين الوقوف على حل حقيقي لهذه الأزمة.تساهم المرجعيات الدينية وهيئات الإفتاء بشكل واسع ومباشر في دعم هذه الحركة ، ومساندة الشارع إلى حين الوصول إلى نتيجة حقيقية ،بحيث لا يتم تسويف ،أو تعويم التحرك ، ويحرم على الجمهور التنازل أو التقاعس قبل أن يبلغ مطالبه المنشودة.تتميز هذه الأزمة المبتدعة عن غيرها من الأزمات التي نصطلي بنارها منذ التغيير والى هذه اللحظة بميزات مهمة منها :أولا :أنها تساهم بشكل فاعل في تجاوز الأزمة الحالية التي تجثم على صدر المشهد السياسي ، وتكاد تشل حركة البلد ،ويلوح منها شرر خطر ،فالواقع السياسي في العراق تعود على أن الأزمة تحركها وتدفعها أو تذيبها أزمة جديدة .وثانيا :تمثل انشغال بأزمة شريفة تتصل بمطالب الجمهور وحاجاتهم ،فبدل الصراع على السلطة ، وتقاسم المغانم ، وتبادل لغة الاتهام والتخوين ،ينشغل الجميع في أزمة نبيلة لا يلام أحد في تصعيده لها ،أو مدافعته عن حقوق الناس فيها ، ولنر ولو لمرة واحدة،أن قوانا السياسية تختلف من أجلنا ولأجلنا.وثالثا:إذا كان التصعيد والتوتر وعدم القبول بالحلول الوسطية حالة سيئة في الأزمات السابقة لأنه صراع من أجل الذات ، فإن التزمت والصلابة والمواقف المبدئية هنا محمودة ومطلوبة ،بحيث لا يساوم أحد على حقوق الناس ومطالبهم.ورابعا :أعتقد أن المشهد الذي تم تخيله إذا ما تم بشكل منتظم ،فإنه بالتأكيد يوصلنا إلى حل مقبول لمعضلة مستعصية يعيش العراقيون تحت وطأة مراراتها من سنين دون أن يروا في الأفق حلا حقيقيا ، خصوصا ،وأنهم اعتادوا على نتيجة عكسية لوع
إبداعات صيفية من وحي الساعة الواحدة ظهراً
نشر في: 18 يوليو, 2012: 07:05 م