هناء مهدي تصاعدت وتيرة الصراع بين التيارات السياسية في الأشهر الأخيرة وما زالت، إلى حد مخيف، وكالعادة لم يقف الصراع عند حدود المنطقة الخضراء بل تجاوزها ككل مرة ليلقي بظلاله على الشارع العراقي ويتحول أيضا ككل مرة إلى لغة الموت والدمار، لكن المختلف في الصراع الراهن أن القواعد الشعبية دخلت طرفا فيه وأصبحت المعارك الألكترونية
على موقعي (الفيس بوك وتويتر) مسرحا لحرب ضارية بين أنصار أحزاب سحب الثقة عن رئيس الحكومة ومناوئيهم المتمسكين بهذا الرئيس، وبحسب ما يقال إن هذه المعارك الكلامية تطورت لتصل إلى حد القرصنة الألكترونية.المشكلة ليست في الصراعات بين الأحزاب والساسة ،فهو أمر اعتدناه منذ تسع سنوات، فعلى ما يبدو أنهم لا يجيدون غير ذلك، لكن عندما تصل هذه الصراعات إلى مرحلة التأييد الشعبي فهنا تكمن الخطورة.التوتّر بين الأحزاب السياسية موجود في العراق، أما كيف نقرأ هذا التوتر، فالملاحظ أن معظم القوى السياسية العراقية لا تدرك جيداً ضرورة الاختلاف، بل أنها تفسر الاختلاف في وجهات النظر على أنه دعوة للاحتقان، ولو أدركت هذه القوى أن علامات الصحة في العمل السياسي تقوم على أساس الاختلاف لما وصلت إلى حالة التوتر المتأزم هذا ولجنبوا الشارع العراقي تداعيات احتقانهم وما نتج عنه من ردود أفعال خطرة.الأمن والاستقرار للمشكلة العراقية يحتاجان إلى معالجات لا تقتصر فقط على الإجراءات الأمنية والاستعراضات العسكرية التي تشهدها شوارع بغداد خلال هذه الأيام، لأن الإشكالية في القضية العراقية ذات أبعاد سياسية أولا ً وأخيرا، والتراشقات الإعلامية بين الكتل والشخصيات السياسية وتنابزهم من على شاشات التلفاز لا توفر معالجة سياسية تضمن الأمن والاستقرار وكذلك هو الحال بالنسبة للحلول الأمنية والعسكرية فهي الأخرى لا توفر الضمانات الكافية لحل هذه الإشكالية.ونقصد بالحلول السياسية البدء بإجراءات عملية لبناء الدولة العراقية المدنية، وهذا البناء يقتضي بالضرورة دستوراً مدنيا متماسكا غير مهلهل ومكتمل لا منقوص كالذي لفقته الجمعية الوطنية على عجالة وكأن من كتبوه كانوا يطمحون إلى الدخول في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، دستور يتفق عليه الجميع ويحترمونه لا دستورا يختلفون عليه ويحتقرونه، لذا من المهم تعديل الدستور الحالي، أو بالأحرى إعادة كتابته من جديد من قبل خبراء متخصصين لا ساسة يجهلون ما يفعلون ويلزمون أنفسهم بقوانين وثوابت ومن ثم يتملصون منها ويتجاهلونها.ثمة مشكلة أخرى في الصراعات السياسية العراقية تتمثل بأطراف الصراع، فمن الطبيعي أن تشهد الأنظمة الديمقراطية صراعا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أو حتى بين المعارضة البرلمانية والكتل البرلمانية التي انبثقت منها الحكومة، إلا في العراق فالأمر مغاير تماما، حيث هناك صراع محتدم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبين أعضاء الحكومة أنفسهم أيضا، وصراع بين الكتل البرلمانية – إذ لا توجد معارضة في البرلمان العراقي – بل الأكثر غرابة أن هناك صراعا بين أحزاب الكتل البرلمانية التي شكلت الحكومة، وهذا ما يثير الضحك والاشمئزاز، وكأن العملية السياسية في العراق حلبة لصراع الديكة، لا وسيلة لتحسين الأوضاع والسير بالبلد والمواطنين نحو الأفضل.إن جوهر العملية الديمقراطية هو صراع بين التيارات السياسية المختلفة للتأثير في سياسة الدولة وتوجيه العملية السياسية بما يخدم المصلحة العامة للبلاد، أما الصراع الحالي بين الساسة فهو صراع من اجل مصالح ومكاسب حزبية انعكست بشكل فوضى مدمرة على الساحة العراقية وهذا ليس في صالح أطراف الصراع ذاتها وعليهم إدراك خطورته.من حيث المبدأ لابد من أن يكون البرلمان بمنأى عن أية إجراءات رادعة لتعزيز المناخ الديمقراطي تحت القبة البرلمانية واحتواء الاختلاف في وجهات النظر وتوظيفها للصالح العام باعتباره المكان الأنسب لهذه المفاهيم كما يفترض أن لا تدخل وجهات النظر في دائرة الاحتراب السياسي ولا سبيل إلى معالجة الاختلاف إلا عبر الحوار الهادئ في أجواء برلمانية وسياسية متفهمة للقيم الديمقراطية، وهذا ما لا نشهد في برلماننا الكاريكاتيري.البرلمان هو صورة مصغرة عن الواقع السياسي للمجتمع العراقي، وأعضاؤه هم ممثلو الشعب الذي صوتّ لهم، ما يعني أن الشعب هو القناة التي يمر عبرها صراع الأحزاب للوصول إلى مراكز صنع القرار وبسط النفوذ.إن حالة التراشق والتقاذف بين الأحزاب السياسية وما يترتب على ذلك من توتر بين الأحزاب هو عدم تبلور ثقافة وطنية أولا وثقافة ديمقراطية ثانياً، وفي ما يتعلق بالثقافة الوطنية ألاحظ أن القسم الأكبر من الأحزاب السياسية غير قادرة على تغليب مصلحة الوطن على مصالحها الخاصة لذا تندفع بحماسة كبيرة كدفاع عن مصالحها الخاصة على حساب المصلحة الوطنية وتتحول مصلحة الوطن والمواطن إلى مجرد شعارات وأقنعة مزيفة سرعان ما تنكشف عند أول تصادم بين مصالحها ومصالح الوطن.أعتقد أن هذا يكشف عن وجود خلل في البنية الفكرية والمنظومة المعرفية التي تقوم عليها هذه الأحزاب حيث أن أغلبها ينظر إلى السياسة على أنها ساحة صراع عنيف بين طرفين يتوقف بقاء أحدهما على زوال الآخر، ما يعني أن السياسة في منظور هذه الأحزاب إقصائية انقلابية قوامها إلغاء الآخر وتهميش
حرب شوارع سياسية
نشر في: 18 يوليو, 2012: 07:40 م