علي حسينخدعني الشعب الليبي فقد راهنت العديد من الأصدقاء على أنه سينظم الى قائمة الجمهوريات الإسلامية، ويصبح جزءا من إمبراطورية المرشد محمد بديع، الذي يعتقد ان اجتماع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في القاهرة انتصارا لإرادة الشعوب، لا يوازيه اي انتصار آخر حتى لو تعلق بتوفير لقمة العيش والأمان والخدمات للناس..
كنت اتوقع ان ليبيا سوف تقع في أيدي الأحزاب الدينية، وسينتقل الناس معها من اللجان الثورية الى الميليشيات الثورية ، وكان إبعاد الدكتور محمود جبريل عن رئاسة الحكومة تحت ضغط الثوار الجدد، أول دليل على ضياع حلم الدولة المدنية.. لكن جبريل خيب كل توقعاتي ، فالرجل رغم قصر تجربته في الحكم ترك انطباعا طيبا عند كل الليبيين، فما ان دارت عجلة اول انتخابات ليبية حتى استطاع ان يثبت ان التغيير ممكن وبأبسط الأدوات، المهم أن تتوافر الإرادة السياسية المخلصة، وأن يكون هناك استعداد لدفع الثمن، وساعتها سيكون التغيير سهلا."لا خوف بعد اليوم" شعار شاهدناه من على شاشات التلفزيون يحمله نسوة ورجال ليبيون، شبان وفتيات، الخوف هذا الوحش الفظيع الذي يكبّل الشعوب، ويتركها تتخبّط في مستنقع البؤس والعصبية والتخلّف، يمكن الانتصار عليه في النهاية، في ليبيا دقت ساعة التغيير بعد اكثر من اربعين عاما من الانتظار كنا خلالها لا نجرؤ على الحلم. ما إن تتحدّث عن التغيير، حتى يخيّرك حراس الهيكل بين حذاء الديكتاتور وشعارات الساسة الجدد.قبل الانتخابات الليبية كنت متيقنا ان اهالي طرابلس سيخدعون مثلنا، حين تصبح أقصى أحلامهم موافقة المسؤول على السماح بإقامة ناد اجتماعي، أو السماح بإقامة حفلة غنائية على إحدى المسارح، وان تضحياتهم ستنتهي بمثل ما انتهت إليه تضحيات إخوة لهم في العراق لا يستطيعون القيام بمظاهرة أو احتجاج إلا بموافقة السلطات الرسمية، وان أولي الأمر سيضعون لهم قانونا لحرية التعبير، واخر للأخلاق العامة مثلما يحاول اليوم رجال دولة القانون تشريعه لنا. لم أراهن على جبريل ورفاقه فكنت اعتقد انه لا يختلف كثيرا عن ساسة عايشناهم، ورأينا كيف ان المناصب والمنافع يمكن ان تنقلهم بين ليلة وضحاها من اقصى اليسار الى اقصى اليمين. اذن فاجأتنا ليبيا الدولة المحافظة التي لجأت الى التدين هربا من ظلم القذافي ، بفوز دعاة الدولة والمجتمع المدني، برغم صعوبة المعركة وقوة الطرف الاخر – الاخوان – الذي تسلحوا بوفرة المال وبمساندة من الجيران في تونس ومصر. لعل التجربة الليبية لا تختلف كثيرا عن التجربة العراقية فالدولتان اسقط نظام الحكم فيهما بمساعدة قوات الناتو والامريكان، والدولتان تسبحان على بحور من الثروات، وايضا على محيطات من المشاكل والمنازعات، لكننا في العراق لم يقدر لنا ان نجد سياسيا بحجم محمود جبريل يطرد من السلطة ، لكنه يعود اليها ظافرا من خلال صناديق الاقتراع، يحاصره الاسلاميون فيلجأ الى القوى المدنية التي تؤمن بليبيا جديدة لايحكمها رجال مثل الغنوشي ومرسي. اكتب عن جبريل وامامي نموذج عراقي عاش مأزقا سياسيا حقيقيا واعني به اياد علاوي الذي لانعرف حتى هذه اللحظة هل هو علماني ليبرالي؟ أو ممثلا للرأسمالية الوطنية، أو أنه يقود حزبا مدنيا حقيقيا، أو أن لديه ميولاً تدفعه إلى التواصل السياسي مع الجماعات التي لم يتم حتى هذه اللحظة الاعتراف بها على الساحة السياسية العراقية. ذلك ان علاوي برغم كل الفرص التي اتيحت له لم يستطع أن يشكل حزب أغلبية، كما أنه يواجه مصاعب في إثبات أنه حزب المعارضة الرئيسي في البرلمان، حتى هذه المكانة لا يستطيع أن يبلغها، رغم أنه يملك حتى هذه اللحظة اكثر من 80 نائباً في البرلمان، فبين الحصول على مكاسب شخصية وسياسية وبين إرضاء الناخبين، يبدو أن الرجل بدا يأكل تاريخه السياسي. حين اقصي محمود جبريل من السلطة لم يهرب الى لندن، ولم يفكر لحظة واحدة ان ينظر الى طرابلس من شرفة في البيكاديللي، فقد ظل جزءا من الحراك السياسي لبلاده، وفيما اصر علاوي على الابتعاد عن مركز الأحداث –العراق– بسبب سفرياته الكثيرة التي جعلته يرضى بدور "المنظر للسياسة بدلا من دور المشارك الفاعل في صنع الحدث". ترك الامريكان العراق وسط فوضى سياسية.. وترك القذافي بلده من دون جيش ولا دولة.. لكن النتيجة لم تكن واحدة. الآن يقول لنا جبريل إن ليبيا سوف ترسو على شواطئ العقل لا الثأر.. فيما صاحبنا علاوي ظل يعتقد ان التظاهرات يمكن ادارتها بالريموت كنترول من وسط لندن. فرح العراقيون بالخلاص من عقود من الظلم ، لكنهم اليوم يفتقرون الى بدائل وطنية صالحة، فيما سياسيوهم لا يبدون متفقين على العراق نفسه.
العمود الثامن: هزيمة علاوي وانتصار جبريل
نشر في: 18 يوليو, 2012: 09:16 م