احمد المهنا"المجنون"، بالمعنى الحرفي لا المجازي، كان موضوع مناقشة طريفة، أثارتها قصة قصيرة للأديبة ورود الموسوي، خلال امسية ثقافية في لندن. والسبب هو مشهد في القصة يعرض أطفالا في قرية وهم يقذفون صبية "مجنونة" بالحجارة.
وكان مدار النقاش هو ما اذا كان مثل هذا المشهد، أو الحادث، ممكنا في العراق. ووجد عديدون ان الأمر يتوقف على جنس "المجنون". فقد يكون حصوله متعذرا اذا كان أنثى وممكنا اذا كان ذكرا. اذ تظل للأنثى حرمتها في بلادنا. ولربما فُسِّرت هذه "الحرمة" بأن الأنوثة ضعف والجنون ضعف آخر، وليس من المروءة "معاقبة" مثل هذا الضعف المركب.ومثل هذا الواقع المانع لمعاقبة أنثى مجنونة، وتفسيره معا، جيدان، لأن فيهما تقديرا للضعف البشري. ويبقى ان تقدير "الجودة" هذا نسبي. ذلك أن العقوبة هي نفسها سيئة، اذا لم تكن جناية. فليس من الانسانية معاقبة ذكر أو انثى، باليد أو اللسان، بسبب الجنون. فالجنون ليس جناية ولا جريمة وانما مرض عقلي.ولكن هناك في مكان ما من وعينا او لاوعينا، وفي طبقة ما من ثقافتنا، ما يعد "الجنون" نوعا من جناية. فأحد المتناقشين استخدم تعبير "تهمة الجنون". وصحح له آخرون قائلين ان التعبير غير ملائم فالجنون مرض لا تهمة. وقال أحد الحضور أن القرية أرحم من المدينة في التعامل مع المجنون بالعراق. وأن هذه الرحمة كثيرا ما أدت الى شفاء مجانين، في حين أن قسوة المدن تخبل العقلاء وتزيد المخابيل جنونا.ولعل أجمل ما توارد الى خاطري، بهذه المناسبة، ما روي لي من أن مريضا عقليا، عرفته منذ طفولتي، قد أشاع موته حزنا حمل أبناء بلدتي على تشييعه في جنازة مهيبة. وكان "وليد"، الله يرحمه، مجنونا مسالما. أما جارنا "احسان"، الذي ذهب الى رحمة الله هو الآخر، فكانت يده طليقة مع الناس اذا اتيحت له الفرصة، لأن جنونه كان مطبقا.ولعل ذاكرتي خصت "احسان" بتمييز ما عن "مجانين" المحمودية، لأن الرواية المحلية أسبغت على مرضه معنى معبرا عن نظرة الى الجنون. فقد قيل ان والده كان عقوقا تجاه ابيه، وقد سُردت عن عقوقه ذاك حكايات مؤذية. فعاقبه الله بابنه "احسان" الذي ولد مجنونا. هذه النظرة الى الجنون بوصفه عقابا من الله وجدت في معظم ثقافات الشعوب، ومنها الأوروبية حتى القرن التاسع عشر. ولكن الأخيرة طوت هذه الصفحة، وفصلت بين الجنون وبين الأخلاق والدين وأحكام المجتمع فصلا تاما، وتحول المجنون عندها الى مريض عقلي يحتاج الى علاج.ومثل هذا "التحول" في النظرة الى الجنون، من عقوبة الى مرض، لم يتحقق عندنا تحققا تاما بعد. وهذا مع اننا اكتسبنا بعض الآراء الايجابية في الجنون. اذ نرمي بالجنون، في سياق الثناء، أشخاصا موهوبين، أو متمردين، أو عشاقا، أو "مختلفين". ولا اعرف ما اذا كان مديح الجنون خيرا أم شرا في عالمنا العربي. ومعرفة ذلك تلتبس عليّ لأن من المشكوك فيه أن يكون "العقل" يعمل عندنا بأحسن حالاته. واذا لم يفعل "العقل" ذلك فكيف نرتجي خيرا من "الجنون"؟أما الأمر المؤكد فهو أنه لا يوجد شيء صحيح في مجتمع يعاقب المجانين.
أحاديث شفوية: معاقبة المجانين
نشر في: 19 يوليو, 2012: 07:03 م