نجم والي2-2قضى جيمس جويس حياته يكتب عن ناس وشوارع دبلن، تلك المدينة الذكورية المحافظة والغامضة بالنسبة للكثيرين، المدينة التي حلّ عنها جويس حزام العفّة وسلط عليها وعلى أهلها ضوءاً فانتازياً، ضوءاً مقتلعاً من الواقع تشكل جزءاً ...جزءاً من الذاكرة والمسافة، ومعلباً في ماكنة الزمان،
ماكنة الكاتب جيمس جويس، مثل مدينة "ريميني" الإيطالية، تلك المدينة المعلبة التي ظل الإيطالي فيليني محتفظاً بها تحت إبطه لسنوات طويلة، يحملها ويبثها بوجل هنا وهناك في أفلامه الكثيرة وكأنه تعمد اشتغال تلك البروفات، متهيئاً لآخر أفلامه، قبل وفاته، تلك المدينة التي لم تحتضنه، ولم تعترف به كفنان، وتعلم منها الدرس الذي يتعلمه كل فنان شاب: البحث عن مملكة الفن خارج أسوار المدينة التي وُلد فيها، ثم العودة إليها تباعاً، عن طريق الذاكرة والخيال هذه المرة.هكذا جويس أيضاً، فبالذات عن تلك المدينة - دبلن - التي لم يستطع الكتابة فيها ولا التنفس، صنع أدباً عظيماً. في حياته لم يمنحوه الانتباه الكافي، عكس الذي منحه بعد ذلك - بعد موته - مواطنوه أصحاب العقل التجاري - مثل مواطني وليم فوكنر الذين لم يزعجوا أنفسهم حتى بإغلاق المحال التجارية كعلامة للحداد في يوم موته، أو مثل مواطني لوركا الذين وبعد قرابة سبعة عقود من موته منحوا للمدينة التي قتلته ما يكفي من المبالغ أكثر من تلك التي حصل عليها على مدى سنوات عمره الثماني والثلاثين التي عاشها، أو مثل مواطني السياب الذين لم يحصل منهم حتى اليوم على الاعتراف الكافي، بل أذلوه في حياته حتى أضطر إلى أن يكتب مدائح كريهة لهم، يكتب مدائح شوهت سمعته وجعلته يموت مرتين ولن ينفع أن يضع الذين مدحهم تمثالاً له في مدينة البصرة لم يكتشفوا قيمته ونظفوه حتى من براز الطيور، حتى اندلاع حربهم ضد إيران أولاً (أول ما طالت المدافع الإيرانية إياه)، أو قبره الفقير الذي لولا عناية الشاب خالد عبد العزيز المشرف على مقبرة الحسن البصري في الزبير لكان الزمن سوّاه مع الأرض!يبدو أننا لن نبوح بشيء جديد، إذا قلنا أن الموت بدون قيد أو شرط أكثر الشروط المقبولة لكي يكف المتمرد عن الإقليمية والهارب من خدمة العلم والذي يقشعر بدنه من لفظة "قومية" يكفي أن يكون ملعوناً من قبل مواطنيه، بل يصبح ابناً باراً وفخراً قومياً. جيمس جويس الذي مقت بالتساوي السيطرة الإنكليزية لبلجه مثلما كره الإغلاق الروحي في صفوف الكهنة والظلاميين من القوميين الإيرلنديين، أنه الآن واحد من الذين يُفتخر بهم في انكلترا وايرلندا وفي الآداب الإنكليزية.في السادس عشر من حزيران/ يونيو المنصرم، في برلين، في حانة ايرلندية من الخشب الخشن وشبه المظللة، التي أطلق عليها على الطريقة الجويسية "يقظة فينجينيان" شربتُ جعة "جنيسيس" الإيرلندية بينما أحاول أن استعيد أمامي كل السنوات، كل الحانات التي احتفلت فيها بهذه المناسبة عليّ، كل شيء أصبح أمامي بالتفصيل، حتى طعم الجعات التي شربتها في كل السنوات التي مرت.وهي ذاكرتي هذه التي تجبرني أيضاً على تذكر المحطات التي مرّ بها جويس، طوال سنوات منفاه الاختياري، على تذكر المدن التي عاش فيها: تريستا التي عمل فيها معلماً للغة الإنكليزية، باريس التي عاش فيها فقيراً لكن ذلك لم يمنعه من تحمل طبع روايته الخالدة "يوليسيس" على نفقته الخاصة! على تذكر زيوريخ حيث قبره الذي اختاره هناك. وكأن لا مكان شعر جويس براحة فيه!لكن بالتوازي من كل ذلك كان لا بد لي وأنا أحتسي البيرة في حانة "يقظة فينيجنيان" وأتذكر جويس ورفاقه الكوزموزبوليتيين من كل البلدان، في يوم السبت القائظ هذا، كان لا بد لي أيضاً من تذكر بؤس مساكين النقد في كل الزمان وفي كل الأماكن، تذكر أولئك الأقزام الذين يمنحون المرء الرغبة القوية في أن يرحل، إلى دبلن أخرى، إلى بصرة أخرى، إلى غرناطة أخرى، إلى مدن أخرى، إلى كل المدن تلك التي لا توجد على الخارطة، أقصد إلى المدن التي يؤسسها أبناؤها المبدعون - الملعونون والهاربون من خدمة العلم - في الأراضي البكر للذاكرة، في الأراضي البعيدة حتى إذا شاء لهم الإبداع الموت هناك!
منطقة محررة: على خطى جويس في يقظة فينجينيان
نشر في: 19 يوليو, 2012: 07:14 م