TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عالم آخر: أمبير الشعب وواطات الحكومة

عالم آخر: أمبير الشعب وواطات الحكومة

نشر في: 19 يوليو, 2012: 07:27 م

 سرمد الطائيالأصدقاء يتهمونني بأني أحب الحر والجو الساخن. ذلك أنني أينما كنا، أفضل دوما أن أكون على تماس مع الطبيعة، بعيدا عن أجهزة التكييف. الأصدقاء في "المدى" يسخرون مني حين اصطحب الحاسب المحمول وأجلس في "الحر" كي اقرأ وأكتب وأدخن التبغ براحتي، وسط أعلى درجة حرارة عرفها التاريخ. بعضهم يقول:
أنت بصراوي لا تخشى الحر، أي أنني محصن باعتباري قادما من اقرب منطقة عراقية على خط الاستواء.وبعضهم ينوء بحمل رغباتي هذه، فحين يأتي الضيوف إلى المنزل أجبرهم على أن نجلس في الحديقة الصغيرة الملحقة بالدار التي استأجرها، وأحاول أن اصنع لهم أجواء مخففة داخل هذا الصيف الرهيب، فأناضل لتوفير "مبردة" لهم داخل الحديقة. وقد عثرت في السوق بالصدفة على مبردة تعمل بالماء، صينية الصنع، تتفوق على نظيرتها الإيرانية بأنها مصنوعة من البلاستك وأقل ثمنا، وتعمل بأمبير واحد. ولعل العراقيين وحدهم في هذا الكون، يفهمون معنى كلمة أمبير، بين غير المتخصصين في الكهرباء. الصين العظيمة ربما شعرت بأن "العراق العظيم" يعيش شحة رهيبة في الامبيرات، فاخترعت لنا مبردة مختصة بأجواء تموز، تعمل بأمبير واحد.أقوم بوضع المبردة في حديقة المنزل كي أكون على تماس مع الطبيعة، تخلصا من جو الغرف المغلقة المبردة في الصحيفة والتلفزيون وفي قمرة سيارة السايبا التي أستأجرها صباحا ومساء للتنقل.. المبردة الصينية الموضوعة في الحديقة، لا تنقل الهواء المنعش وحسب، بل تنقل معها رائحة النباتات والتراب والماء، وتجعلك تشعر بأنك في مدينة ذات مناخ يشبه اسطنبول أو باريس حتى. قمت بقياس درجة الحرارة أثناء التواجد أمام مبردة الحديقة فكانت ثمانية وعشرين، أي انه جول اسطنبولي بامتياز.أقسى شهرين من فصل الصيف وهما تموز العاشق المخدوع، وآب اللهاب، يمكن اجتياز أمسياتهما عبر التسلح بمبردة صينية المنشأ تعمل بأمبير واحد وتوضع في الحديقة، أمام طاولة الأوراق والشعر والكؤوس والسياسة.ولعل صحفيي العراق هم الوحيدون بين صحفيي العالم الذين تخصصوا في الكهرباء وكتبوا عنها مئات المقالات طيلة أعوام عديدة. ولعل كهرباء العراق هي الوحيدة التي أنفقت الحكومة عليها أضعاف ميزانية سوريا ومصر، دون أن تصل إلى نتيجة محددة. وحين ابحث في أرشيفي اكتشفت أنني أنجزت ثلاثين مقالا عن الكهرباء خلال اقل من سنتين. أقربها إلى القلب كان عنوانه "المولدات بعد ألف عام" نشرته قبل شهور عديدة، ورحت أتخيل أن السيد المالكي نجح أخيراً في تجهيزنا بكهرباء في أربع وعشرين ساعة. ماذا سيكون حينها موقف السادة أصحاب المولدات، هل سيبحثون عن عمل آخر مباشرة؟ والاهم من ذلك مواطنو العراق، فهل سيصدقون مباشرة أن الكهرباء الوطنية عادت بشكل طبيعي إلى وضعها عام 1990، وإنهم لن يدفعوا للمولدة الأهلية شيئا وسيتفاوضون مع الحكومة على تسعيرة "الكيلو واط" بدلا من الأمبير؟أتخيل أن العراقيين لن يثقوا بالكهرباء الرسمية حتى لو استمرت بدون انقطاع شهرا كاملا. سيحتفظون بمولداتهم في الشوارع، ويعترضون على اوامر الحكومة بإزالتها. سيظلون مرتابين من إمكانية استمرارها. بعضهم سيقاطع الكهرباء الرسمية المريبة وسيظل يطلب أن يعيش الى الأبد على خمسة أمبيرات دافئة وجميلة ووفية نسبيا.تخيلت في المقال المذكور ان التخلي عن "الأمبيرية" سيكون تدريجيا، وبعد سنتين من استقرار "الوطنية" سنكون امام فكرة.. وهي تأسيس متحف وطني للمولدات.. في هذا المتحف ستكون أمامنا أول مولدة استوردها العراقيون. في مدخل المتحف، وضعوا آخر مولدة رفعت من شوارع العراق سجل عليها خبير المتحف عبارة: كانت تغذي في أيامها الأخيرة ثلاثمئة منزل قرب بعقوبة. مولدة اخرى وضعوا الى جانبها بطاقة تعريف: تعرضت للعطل مئة وخمسين مرة، ولم تتسلم الغازأويل من مجلس محافظة كربلاء. مولدة ثالثة كتب على واجهتها بالطباشير: انتجت اغلى الامبيرات عبر خط ذهبي في شارع العرصات، بأربعين الف دينار. وبجانبها مولدة أفقر حي في العراق كانت تكفي لخمسة آلاف عائلة فقيرة لم تشترك كل منها بأكثر من امبير واحد بسبب العوز.هناك مولدات منزلية صغيرة اهدتها العوائل الى المتحف. ابرزها مولدة كتب عليها شاب بالتركمانية كلمة معناها، حبيبة الفيسبوك، لأنها كانت تسمح له بالتسلل ليلا الى نوافذ الدردشة مع أصدقائه عبر الانترنت..الخ.في هذا المتحف المتخيل، سيثبت العراقيون ان لديهم اخيرا "كهرباء وطنية" وسيسردون حكاياتهم عن "عصر الامبير الاهلي" وسيهتفون جميعا كما افعل في حديقة المنزل الآن: عاش الامبير، وليسقط الميغاواط الحكومي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram