حسين عيد/القاهرةهي قضية شائكة من قضايا (التعبير)، التي تثار كثيرا في مجتمعاتنا، وعادة ما يتنازعها تياران يطالب أحدهما (المتشدد) بفرض قيود على الإبداع باسم الدين والأخلاق، بينما يحاجج الطرف الآخر (الفنان) بأن الفن يتطلب (حرية) في التعبير ولا حياة له إلا بإطلاقها بغير حدود!
فإذا شئنا أن تتلمس إجابة من خلال أمثلة حيّة ، فقد نجدها لدى كاتبين: أحدهما من شرقنا العربي ، هو الكاتب الجزائري الطاهر وطار في قصته القصيرة " رقصات الأسى " ، من مجموعة " الشهداء يعودون هذا الأسبوع " ( 1967 ) ، التي صدرت في سلسلة " كتاب في جريدة " (سبتمبر – ايلول 1999)، أما الكاتب الثاني فهو الايرلندي أوسكار وايلد ( 1854 - 1900 ) في روايته " صورة دوريان جراى " ترجمة د. لويس عوض ، التي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب عام 1990 . كانت هناك، في قصة " رقصات الأسى " للطاهر وطار ، مسابقة لفرق غنائية على مسرح العاصمة، بدأت بدخول عازف الفرقة الأولى "الحمودي" إلى دائرة النور بالمسرح ، حيث أخرج قصبته الطويلة من تحت جبته ، وأمسكها بكلتا يديه ، وانطلق اللحن " كان المفروض أن يكون اللحن الاستهلالي مديحيا خفيفا ، ولكن الحمودي خالف العادة وما أتفق عليه ، بوازع باطني لا يدري كنهه . وراح يرسل أنغاما لا تعزف في الأعراس والحفلات ، إلا مع منتصف الليل ، عندما ترتفع حرارة العواطف ، وتنحدر العقول ، ويتمنى كل واحد الذوبان في ليل طويل". هنا ، خالف " الحمودي القصاب " ما تم الاعتياد عليه من ألحان استهلالية ، تحت تأثير " وازع باطني لا يدرى كنهه " ، فبدأ بلحن ( ذروة ) لا يعزف إلاّ مع منتصف الليل . هل فعل ذلك بتأثير حمى التنافس ؟ ، أم هو فعل لا إرادي ، جاء نتيجة وقوعه تحت تأثير سطوة ( حنين ) جارف لذكرى فنان آخر هو ( الكامل ) ، الذي كان " يقول بالسليقة في كل عرس من أول الليل إلى ّذروة الفجر " ، و" يشرع في الغناء قبل أن أعزف مسطرا اللحن ثم ينطلق غير مبال بي"، فيأسر المشاهدين. لنتوقف ، أولا ، مع دلالة اسم " الكامل " ، حيث سنجد أن الكامل بين الرجال ، هو "الجامع للمناقب الحسنة" ، والذي يعتبر في هذه القصة (الكامل) بين الفنانين ، وهو من اكتملت أجزاؤه وتمت صفاته ، ولعله كما أراد الطاهر وطار أن يكون (النموذج) الأعلى للفنان. كما قد ينصرف ذات المعنى إلى الناتج الفني (الناضج) في حالته الخام! فإذا انتقلنا إلى (شكل) الكامل (الخارجي)، سنجد أنه كان " عملاقا ، له وجه ملاك " ، وربما من أجل ذلك كان يخفي وجهه بلثام . وانظر إلى عمق (تأثيره) فيمن تجتذبهن ألحانه من فتيات عذراوات، حين ينهضن ليرقصن في أقرب دائرة إليه، إذ سرعان ما يقعن تحت (سحر) غنائه، كانت "كل راقصة تقف أمامه ، تلف حوله لفتين أو ثلاثا، ثم تمد يدها لتنزع عنه اللثام، وتظل ترقص له، وعيناها معلقتان به، إلى أن يأخذوها عنوة من أمامه". هنا، لقاء بين فن (مثير)، يجتذب بشكل (خاص) العذراوات من الفتيات، يسحرهن، فيتحركن تلقائيا (دون وعي ) إلى موقعه، يتماوجن على وقع ألحانه، وإن هي إلا لفتان أو ثلاث ، حتى ينجذبن إلى المركز ، متطلعات إلى لقاء صاحبه. انه لقاء (غريزي) بين ذكر وأنثى ، تجاوز منطق المحظورات ، ليمددن أيديهن بجرأة، ينزعن عنه لثامه، ليكتمل الانبهار بوجهه الملائكي. عند ئذ، يتزلزل الكون من حوله "في العرس الأول وجهت إلى رأسه رصاصة، مزقت أذنه، ومرت لتستقر في قلب عذراء كانت ترقص. تحول العرس إلى مأتم، وظل الجندرمة أسبوعا يبحثون ويستنطقون، دون أن يكتشفوا الجاني" . " في العرس الثاني مزقت راقصة عذراء، ثيابها أمامه ، جاء أخوها مشهرا خنجره . هربنا تحت الأقبية وانطلقنا نركض في الظلمة، وفى الغد سمعنا أن العروس الجميلة طعنت ، إن أخاها سيق إلى السجن ". وفي العرس الثالث رقصت امرأة معه حتى بزغت الشمس، ناسية ابنتها ذات الستة شهور وزوجها ، الذي جاء في الصباح طالبا منه إما أن يرد زوجته أو أن يأخذ الطفلة أيضا!في رواية "صورة دوريان جراي" للايرلندي أوسكار وايلد، كان الرسام بازيل، هو أول من قابل دوريان جراي في إحدى حفلات ليدي براندون. انظر إليه، وهو يعبر عن مشاعره أمام صديقه اللورد هنري حول تأثير النظرة الأولى إلى دوريان جراي "استدرت قليلا فرأيت دوريان جراي، رأيته للمرة الأولى. وعندما تلاقت نظراتنا أحسست بالدم يغيض من وجهي ، وتملكني فزع عجيب ، وأيقن أنني أمام إنسان ذي شخصية ساحرة مدمرة، فلو أنني تركت الأمور تجري مجراها العادي لاستغرقت روحه روحي ولأفنت نفسه نفسي ولسيطر على فني ومواهبي". نحن، هنا، أمام فنان (صادق) الحس للنفس البشرية، يمتلك (حدسا) عاليا يرهص له بلحظة (الخطر). انه لم يتحدث عن جماله المكتمل، بل تملكه (فزع) عجيب، قد يرجع إلى (سطوة) ذلك الجمال الطاغي، الذي يطوى الآخرين مباشرة تحت جناحيه وي
حدود حرية التعبير بين المسموح والمحظور في العمل الروائي
نشر في: 20 يوليو, 2012: 05:29 م